لماذا نشارك فى انتخابات تنعقد فى ظروف غير مناسبة؟ لماذا نكترث بها وقد تعرضت لعقبات متوالية، من قانون معيب، إلى تخبط فى القرارات المنظمة لها، إلى بطء من اللجنة المعنية بالإشراف عليها؟ ما قيمة البرلمان إذا كان المتحدث باسم المجلس العسكرى يعلن أنه لن تكون له صلاحية كاملة، ولا إشراف على الحكومة، ولا قدرة على تعيينها أو عزلها؟ لماذا نشارك والبلد بلا حكومة، والشارع بلا أمن، والشائعات تملأ الدنيا؟ لماذا نتعب أنفسنا والبرلمان القادم قد يكون عمره قصيرا والحكماء ينصحون بتوفير الجهد لأن الفرصة الحقيقية ستكون فى الدورة التالية؟ لماذا نفترض أنها ستكون انتخابات نزيهة وحرة؟ بل كيف تنعقد انتخابات أصلا والمعتصمون فى ميدان التحرير وباقى الميادين يطالبون بحريات وبحقوق قد لا يحصل الوطن عليها بغير الاعتصام والتظاهر؟
والإجابة عندى بسيطة، وهى أننا لا نشارك فى الانتخابات باعتبارها بديلا عن الاعتصام والتظاهر السلمى،وإنما نشارك لأن هناك ناخبين يرغبون فى الإدلاء بأصواتهم وفى المشاركة فى صنع مستقبل بلادهم بالوسيلة المتاحة لهم، وهى الوقوف لساعات قد تكون طويلة أمام مراكز الاقتراع، والتعرض لمضايقات محتملة بجميع أشكالها، والتصدى لحروب الشائعات، واحتمال البرد والمطر من أجل أن يضعوا الورقة التى تحمل علامتهم فى الصندوق وأن يشعروا بأنهم لم يقصروا أو يفرطوا حينما سنحت الفرصة.
لا شك أن الأسباب المعروفة الأخرى كلها وجيهة، أن البرلمان القادم سيشارك فى وضع الدستور المقبل، وأن الأحزاب ستتحدد أهميتها النسبية، وأن الاقتراع قد يكون بداية الخروج من مرحلة انتقالية صعبة. ولكن فى الجدل الدائر حول الانتخابات يستوقفنى أن الناخبين وأثر الانتخابات عليهم لا يكاد يرد ذكرهم مطلقا. الحديث يدور حول تصارع بين قوى سياسية، وحول تقسيم للمقاعد، وحول اتفاقات لتشكيل الجمعية التأسيسية، وحول مقاعد وزارية محتملة، وكأن الموضوع كله مباراة لكرة القادم تجرى بين اللاعبين وحدهم فى ملعب خاو ليس فيه أطراف أخرى. هناك ناخبون يرغبون فى المشاركة، وهذا يكفى لكى تكون الانتخابات ضرورية ويكون الاشتراك فيها ذا قيمة أيا كان ما تسفر عنه. قيمة الانتخابات ليست فى النتيجة التى تتحقق بفوز حزب على آخر أو مرشح على منافسيه، بل فى المشوار الطويل الذى يقطعه المرشحون مع أهالى دوائرهم، فيتعرفون عليهم، ويفهمون مشاكلهم، ويطلبون ودهم، ويتعلمون أن هؤلاء الناس هم من أتوا بهم إلى مواقعهم، وفى التعبئة التى تحدث فى الرأى العام، وفى فتح المدارك السياسية المبكرة لأطفال ينتبهون لما يدور حولهم. هذا المشوار هو ما يعطى الانتخابات قيمة لا النتائج التى تفرزها.
والناخبون ليسوا طرفا سلبيا فى الانتخابات، بل هم أبطاله الحقيقيون. فالتفكير فى الناخب على أنه شخص يجلس فى منزله يتردد قليلا، ثم ينزل مبكرا ليدلى بصوته ويعود لاستئناف حياته العادية لا ينطبق إلا على أقلية. الآخرون يخوضون تجربة أخرى، قد تؤدى إلى تمسك برأى سابق أو إلى تغيير فى المواقف المسبقة، ولكنها فى جميع الأحوال تحمل معها إحساسا بالمشاركة الإيجابية. الأهم من ذلك أنها فى أحيان كثيرة تنطوى على مخاطرة يقبل عليها أشخاص لا ندرك فى الغالب قدر ما تغير الانتخابات من حياتهم. شباب يخرجون عما يمليه عليهم الآخرون، نساء يمثل خروجهن موقفا أكبر بكثير من مجرد اختيار مرشح برلمانى، كثيرون ممن كانوا يحرصون على ألا يجهروا باختياراتهم خوفا من التوتر أو الخروج على الإجماع أو الحرج، كل هؤلاء يخاطرون بالوقوف بجانب المرشحين علنا وبمناصرتهم ولو خسروا معركتهم الانتخابية، مع كل ما يصحب ذلك من عواقب على حياتهم وعلى علاقاتهم الاجتماعية والعائلية على المدى الطويل.
هؤلاء الناخبون هم أيضا جنود المعارك الانتخابية المقبلة. الذين تحمسوا وخرجوا، ولو لم يفز مرشحوهم، هم من سيخرجون فى انتخابات النقابات، والجمعيات، والنوادى، والجامعات، وكل مناسبة أخرى تتاح لهم للتعبير عن مواقفهم واختياراتهم السياسية. المشوار الانتخابى والوعى السياسى والرغبة فى المشاركة بكل الوسائل مكسب مستمر. ولأن الناخبين هم العنصر الأهم فى الانتخابات وفى المشوار الانتخابى الذى يسبق الاقتراع فلا يهم كثيرا ما إذا كان البرلمان سوف يستمر عاما أم أربعة. الاهتمام الزائد بمدة استمرار البرلمان مشكلة النائب الذى يفكر فيما أنفقه من وقت ومال وجهد، ولكنه أمر لا يعنى الناخبين كثيرا الذين يشغلهم ما سوف يحققه البرلمان وليس مدته.
وأخيرا لنفترض أن المجلس القادم سيكون منقوص الصلاحيات على نحو ما يتردد، وهذا احتمال حقيقى فى ظل الفوضى القانونية والدستورية التى نعيشها، فإن هذا الجيل الجديد من الناخبين الذين شاركوا فى التصويت لأول مرة سيكونون أكثر استعدادا لخوض المعركة القادمة من أجل انتزاع صلاحيات كاملة للمجلس، أو حتى إسقاطه بالكامل إذا تقاعس عن انتزاع هذه الحقوق وتواطأ فى عدم ممارسة دوره الرقابى والتشريعى كاملا، أو حجبت الحكومة التنفيذية عنه صلاحياته الطبيعية.
أكتب هذه الكلمات فجر يوم الاثنين، قبل بدء الانتخابات بساعات قليلة، ولا أملك أن أتوقع إذا كانت ستكون نزيهة وآمنة كما يأمل الشعب المصرى كله، أم ستكون عرضة لتلاعب ولمحاولات تزوير إرادة الناس، ولكن ما أعلمه علم اليقين أن مكسب هذا البلد من الانتخابات سيكون فى إصرار الناس على عدم تفويت الفرصة وعلى استرداد بلدهم، وأن المكسب الأكبر هو نزول الأحزاب والسياسيين إلى الشارع للتفاعل معهم والمشاركة فى كل معركة وكل ساحة وكل فرصة لدفع الديمقراطية خطوة للأمام سواء بالاعتصام أو الاقتراع، وآمل انتهاء الانتخابات بسلامة ونزاهة.