(1)
كنت أخطط لاستكمال بعض ما أردت من إضاءات تاريخية وفكرية حول أستاذ الجيل أحمد لطفى السيد، لولا أن داهمنا خبر رحيل المفكر البحرينى «العروبى» الكبير محمد جابر الأنصارى، عن 85 عاما.. ربما بسبب ابتعاده عن الأضواء واحتجابه لظروف صحية خلال السنوات العشر الأخيرة، تقلص حضور الاسم رغم أنه ظل لأكثر من ثلاثة عقود متصلة نجمًا متألقا فى سماء الفكر والثقافة، ودراسات الحضارة والفكر التربوى، والشأن السياسى والدولى..
كنت أتابع مقالاته الرائعة فى مجلة (العربى) الكويتية، وفى مجلة (الدوحة) القطرية، وكنت شديد الإعجاب بطريقته السلسة فى الكتابة وعرض الأفكار، ربما كان ذلك يعود بدرجة كبيرة إلى امتهانه التدريس، وقدرته الفائقة على الشرح والإيضاح وضرب الأمثلة، وهذه خصيصة أو «مزية» كادت تندثر تحت وطأة البحث عن الإغراب والتقعر لإثبات «العالمية» (بكسر اللام) والتحذلق الشكلى! أو هكذا يتوهم من يصرون على ذلك حتى وقتنا هذا!
فضلًا على تكوينه المعرفى الخصب الذى جمع بين تخصصاتٍ عدة، ومثَّل -ربما - نموذجًا فذًّا فى العبور المنهجى المتئد بين التخصصات، وتحقيق «البينية» فى العلوم الإنسانية، بالانتقال من دراسة علم الاجتماع وأصول التربية إلى دراسات الحضارة الإسلامية، والقانون الدولى، وبالتبعية السياسة الدولية!
(2)
ومن بين إنتاجه الفكرى الغزير، لا أنسى كتابه المهم المبكر جدًا «تحولات الفكر والسياسة فى الشرق العربى» الذى صدر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية (فى نوفمبر 1980). وتربطنى ذكريات حاضرة بهذا الكتاب الذى كان أول ما أقرأه فى حياتى عن تيارات الفكر العربى الحديث، منذ بواكيرها مع الطهطاوى وحتى نكسة 1967. كان الأنصارى، فيما أعلم، أول من حاول أن يرسم ملامح ما أطلق عليه «الإحياء التوفيقى» بين التراث والمعاصرة، ومتوقفًا عند تنامى هذا التيار فى ثلاثينيات القرن الماضى.
كان كتابه الآخر المهم جدًا «تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها» من الكتب القليلة، بل والنادرة، التى امتلكت الجرأة فى طرح الأسئلة الجوهرية عن «أزمة النهوض العربى»، وهو كتابٌ لا يكتفى بطرح الأسئلة فقط، بل يجتهد اجتهادات أصيلة وجريئة فى الإشارة إلى بعض الإجابات، كما كان يراه المرحوم نصر أبو زيد فى قراءته العميقة له.
انطلق الأنصارى فى طرحه من ضرورة استئناف مسيرة النهضة الفكرية، بإعطاء تلك المحاولة النهضوية الرائدة حقها، والانطلاق منها دون إفراط أو تفريط. فلا شىء يبدأ من فراغ، ولا بد من تراكم متصل لتحقيق الانعطاف النوعى، والثورة الأصيلة هى التى تعرف كيف تبنى فوق ما سبق من بناء، أما الهدم فلن ينتج غير ما نحن فيه.
كما لا يمكن أن تحقق الأمم أى نوع من الصحوة فى واقعها، إلا إذا بدأت بصحوة معرفية عقلية تحليلية ونقدية، لذاتها أولا، ولماضيها وحاضرها ولحقائق عالمها وعصرها ثانيا. فلا صحوة بلا عقل، ولا صحوة بلا معرفة حقيقية للذات. ومنذ أن تيقظ العقل الإنسانى ومقولة (اعرف نفسك) تتصدر اهتماماته وهى مقولة تنطبق على الأفراد انطباقها على الأمم خاصة تلك التى تجد صعوبة فى مواجهة حقائق ذاتها بموضوعية وشجاعة.
(3)
وكان الأنصارى - كذلك - أحد كبار الدارسين لابن خلدون، ومنجزه الاجتماعى والتاريخى، وتأثر به أيما تأثر، حتى صار الأنصارى علمًا من أعلام ما سمى فى الثقافة العربية الحديثة بتيار «الخلدونية» الجديدة، وقد خصص له أكثر من كتاب، فضلًا عن عشرات المقالات والدراسات فى الدوريات المختلفة..
وقد ظهرت بوادر هذا الاهتمام من الباب الذى عَنونه «خلدونية لا ماركسية» فى كتابه المشار إليه أعلاه (تجديد النهضة) حيث يرى بحثا عن سبل للخلاص من أزمة الفكر العربى، ضرورة طرح فهم منهجى أعمق للظاهرة الاجتماعية العربية، وهو الفهم الذى يتحـرك من اجتماع ابن خلدون بديلًا عن النظريات المنتجة فى سياق اجتماعى وثقافى مغاير.
ومن ثم تتابعت دراساته ومقالاته التى انتظمت فى أكثر من مؤلَّف منها «لقاء التاريخ بالعصر» (صدر فى بيروت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، والذى يضم حصيلة الدراسات المعمقة التى كتبها حول ابن خلدون وفكره، وفلسفته الاجتماعية والتاريخية، وتصويب بعض ما شاع عنه من أفكار مغلوطة أو بالأحرى قراءات مبتسرة وتفسيرات متعسفة، ولإعادة بسط مفاهيم كثيرة لم تعد تصلح لزماننا الراهن.
وفى هذا الكتاب -أيضًا- يدعو إلى غرس بذور الخلدونية بأبعادها المعاصرة فى وعى الأفراد والمجتمعات تأسيسًا لما يسميه «ثقافة العقل»، ويتوقف طويلا حول توفيقية ابن خلدون بين العصبية، أو ما يكافئها من وجهة نظره فى المصطلح السياسى المعاصر «القومية»، وبين الدين.
(4)
لقد كان - رحمه الله - عالم اجتماع مرموقًا وأستاذا للحضارة الإسلامية، وخبيرا تربويا مصلحا، وناقدا للذات الحضارية، ومثقفا مهموما بقضايا النهوض والتجديد والبحث عن المستقبل، وله كتابات مهمة ما زالت تحظى بقيمتها حتى وقتنا هذا.. مهما كانت مساحات الاتفاق أو الاختلاف معها ومع طرحها ورؤاها، لكنها تظل فى النهاية مشروعا فكريا مهما يثير الأسئلة ويطرح المشكلات للبحث والمناقشة.