فى هذا الشهر أتم بهاء طاهر خمسة وسبعين عاما من عمره المديد إن شاء الله، ولم أرد أن ينقضى هذا الشهر دون أن أعبر له عن حبى لشخصه وأدبه على السواء.
لم أقرأ لبهاء طاهر شيئا إلا وأثار إعجابى، سواء كان ما يكتبه قصة قصيرة أو طويلة أو رأيا فى السياسة أو الثقافة، كما أنى لم أجد له توقيعا على بيان فى قضية سياسية إلا وكنت أحب أن أضع توقيعى أيضا عليه. من الطبيعى مع ذلك أن يكون حماسى لبعض رواياته وقصصه أكبر من حماسى لغيرها.
فى مجموعته القصصية الأخيرة «لم أعرف أن الطواويس تطير» «دار الشروق، 2009» ست قصص جميلة، ولكنى فرحت بوجه خاص بقصته «كلاب مستوردة»، واعتبرتها من أجمل ما قرأت له، بل ومن ذلك النوع من الكتابات التى لا أصل من العودة إلى الحديث عنها، إذ أجد أنى، فى كل مرة أعود إلى التفكير فيها، أعثر على شىء جديد لم ألتفت إليه من قبل.
هكذا وجدت قصة «كلاب مستوردة»، وهى قصة لا يزيد طولها على 13 صفحة صغيرة، ولكن بهاء طاهر يقول فيها أشياء كثيرة، وبطريقة عذبة جدا، فأكد لى هذا من جديد، كم يمكن للمرء أن يقول أشياء كثيرة فى كلمات قليلة جدا، كما أن من الممكن أن يملأ البعض مجلدا كبيرا دون أن يقول فيه شيئا على الإطلاق.
القصة تبدأ بزوجين يجلسان فى حديقة الفيللا التى يسكنانها، على مقعدين متقابلين، والزوجة تحتضن كلبها الأبيض الصغير وتعبث بأصابعها فى شعره، أى شعر الكلب.
من السطور الأولى ينقل لك الكاتب جو التوتر القائم بين الزوجين، الزوجة تبدأ العراك بموضوع ليس هو بتاتا السبب الحقيقى لتدهور العلاقة بينهما، إذ توجه الزوجة لزوجها اتهاما غريبا للغاية، وبانفعال لا يتناسب مطلقا مع قلة أهمية الموضوع، وهو أنه غير قادر على الإحساس بشعور الكلاب، وأنه لا يحب كلبها العزيز.
ينكر الزوج ذلك، فتؤكد الزوجة أنه فاقد الحساسية، تصدر من الزوج، وهو يحاول الدفاع عن نفسه، جملة دون أن يقصد بها أن يؤلمها، ومعناها أنه على العكس يسره أن يرى أن الكلب «يشغل وقتها». ولكن هذه الكلمة تمس نقطة ضعف خطيرة لدى الزوجة، ومن الواضح أنها تشغل تفكيرها طول الوقت، وهى أنها عاجزة عن الإنجاب، فتنفجر فى وجه زوجها صائحة: «ما الذى يقصده؟ يشغلنى عن ماذا بالضبط؟»
العلاقة إذن متوترة لأن الزوجة لا تنجب، وتشعر بالذنب بسبب ذلك. ولكن القارئ سرعان ما يكتشف أن الزوج يشعر بدوره بالذنب «أو النقص» لأن أصله الاجتماعى أوفى بكثير من أصلها، وأنه متواضع النشأة بالمقارنة بعائلتها الأرستقراطية.
تذكره الزوجة بذلك انتقاما منه: «هذا المبلغ (الذى أقرضه له ابن عمها) هو الذى جعله يقف على قدميه ليصبح ما هو الآن».
كل منهما عنده شعور بالنقص لسبب ما، مما يجعل كلا منهما قابلا للكسر لدى أى تلميح بذلك يصدر من الطرف الآخر.
الزوجة تذكر فى كلامها جدها الباشا، فيسخر هو من جدها وعائلتها إذ إنهم أثروا بلا عمل، وتعايره هى بأسرته فينفجر مدافعا عن أسرته قائلا إن أهله فلاحون ولكنهم شرفاء.
ولكن هناك سببا آخر لتدهور العلاقة. وهى أن الزوجة تشك «بل تبدو متأكدة» فى أنه يخونها مع أقرب صديقة لها، وأنه خارج الآن للالتقاء بها فى شقة بالهرم.
ثم تحاول إذلاله بأن تقول إن صديقتها هذه لم تنشئ هذه العلاقة معه لأنها تحبه، بل لمجرد أنها كانت طوال عمرها تغار منها لأنها أجمل منها. كما تمعن فى إذلاله بالقول بأن نجاحه كل سببه شوكت ابن عمها هو السبب الوحيد لنجاحه. فهو الذى سهل له ويسهل كل الصفقات والمناقصات والعقود التى يحصل عليها.
اختار بهاء طاهر طريقة حذابة جدا لتسجيل الحوار الدائر بين الزوجين. فالكلام لا يصدر كما قاله المتكلم بالضبط، ولكنه أيضا ليس كما يمكن أن يحكيه شخص آخر، بل هو مزيج جميل بين الطريقتين. وها هو مثال لذلك: «قالت الزوجة لزوجها بهدوء دون أن تنظر فى وجهه: إنه لا يفهم معنى الكلاب.
.. هل يمكن أن تشرح ذلك؟
..لا، لا يمكنها، فهى مسألة حساسية، لا يفيد فيها الشرح، الحساسية إما موجودة أو غير موجودة.
.. ومع ذلك فسيكون شاكرا لو قدمت له مثالا واحدا، واحدا فقط، على عدم حساسيته».
من حين لآخر يعود الكلام عن الكلب، وكأن القضية هى ما إذا كان الزوج يحب الكلب ويحس بإحساسه أم لا. ولكن الزوجة تنفجر فجأة بالسؤال الآتى:
«لماذا لا يطلقها ليكون له ولى للعهد أو أولياء للعهد يرثون ملايينه؟»
ينكر هو أى رغبة فى الطلاق، ويعيد تأكيد حبه لها.
ولكنها غير مقتنعة، فالشعور بالنقص لعدم الإنجاب لا يمكن أن يغايرها، ثم يسألها هو:
هل تريد هى الطلاق؟ فتجيب هى أيضا بالنفى.
لا أحد يريد الطلاق، ولكن لا أحد يستطيع أن يحصل على السعادة فى كل هذا الزواج، لأن لدى كل منهما عقدة نقص لا يستطيع التخلص منها.
وهكذا، على الأرجح، تستمر الحياة، وربما استمرت على ذلك سيئة طوالا، وأثناء ذلك يقوم الكلب بدور مهم، وإن كان لا يعرف عنه شيئا.