فى يناير من العام الماضى أصبح ميدان التحرير اسما يتصدر نشرات الأخبار فى العالم، ورمزا لثورات الشعوب ضد طغيان الحكام واستبدادهم، ودخلت كلمة تحرير العربية لغات العالم المختلفة، وأضحت جزءا من قاموس الشعوب الثائرة المتطلعة إلى التحرر، لم يعد ميدان التحرير مجرد ميدان فى قلب القاهرة بل غطت ميادين التحرير مدن مصر ومدن العالم شرقا وغربا.
ميدان التحرير الذى شهد ثورة الشعب المصرى على مدى ثمانية عشر يوما من 25 يناير إلى 11 فبراير 2011، والذى لا يزال ساحة للتطلع إلى تحقيق الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية والحرية لشعب مصر، له حكاية ممتدة ترجع بدايتها إلى عصر الخديو إسماعيل (1863 ــ 1879) عندما أطلق مشروعه لتحديث القاهرة وتحويل الكيمان والتلال والخرائب فى غرب المدينة القديمة إلى حى حديث على طراز الأحياء الجديدة فى المدن الأوروبية، حى أطلق عليه القاهرة الإسماعيلية، وعندما أضيفت له منطقة التوفيقية صار يعرف بالقاهرة الخديوية، تميزا لها عن القاهرة الفاطمية وقاهرة المماليك، حى به شوارع مستقيمة متقاطعة ومتوازية تصب فى ميادين متسعة، كان من بينها هذا الميدان الذى أصبح ميدان التحرير منذ يناير 1953.
ميدان التحرير يذكره على باشا مبارك فى الجزء الثالث من خططه المعروفة بالخطط التوفيقية الجديدة ضمن الميادين المستجدة فى عصر الخديو إسماعيل، ويذكره باسم ميدان الكوبرى ويحدده بأنه الميدان الذى يقع تجاه كوبرى قصر النيل وسراى الإسماعيلية، وهى من السرايات التى بناها الخديو إسماعيل وموضعها الآن وفقا لما ذكره عبد الرحمن زكى فى موسوعة مدينة القاهرة، مجمع التحرير.
فكرة الميادين فى المدن الحديثة ترتبط بتحولات المجتمعات فى تلك الحقبة من الزمن، ولم يكن إنشاء الميادين مجرد تعبير عن رؤية جمالية أو تلبية لاحتياجات ترتبط بالتخطيط العمرانى للمدن الحديثة، بل كانت الميادين ساحات مفتوحة للتعبير أمام الشعوب.
وفى مصر كانت الميادين الجديدة ساحات للتظاهر والاحتجاج خاصة إذا كان قصر الحاكم يطل عليها، مثل ميدان عابدين الذى ظل منذ الثورة العرابية سنة 1881، مقصدا للمتظاهرين والمحتجين. أما ميداننا ميدان التحرير، فقد عرف أول حدث سياسى كبير بعد إنشائها بسنوات قليلة، عندما وقعت به مظاهرة قصر النيل التى قادها الضابط محمد عبيد لتحرير عرابى وزملائه الذين كانوا يحاكمون أمام مجلس عسكرى.
وفى السنوات التى تلت الاحتلال البريطانى تراجعت مكانة ميدان الإسماعيلية (التحرير حاليا) كساحة للمظاهرات الشعبية، كان معبرا للمظاهرات مثلما حدث مع تلك المتجه إلى بيت الأمة وقصر عابدين فى نوفمبر 1935، حتى شهد واحدة من أكبر المظاهرات فى تاريخ مصر، فى 21 فبراير 1946، ومع صحوة الحركة الطلابية المصرية فى أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات كان ميدان التحرير المقصد والهدف لكل المحتجين، مثلما كان شهر يناير موعدا لتجدد النضال من أجل حرية هذا الوطن.
وقد خلد أمل دنقل اعتصام ميدان التحرير فى يناير 1972 فى قصيدته الشهيرة «الكعكة الحجرية»، مثلما خلد أحمد فؤاد نجم شهر يناير شهر الثورات بقصيدته «كل ما تهل البشاير من يناير»، ومثلما عبر عبدالرحمن الأبنودى عن ثورة 25 يناير بقصيدته «الميدان».