مع حلول ٢٥ يناير من كل عام، تجد الدولة نفسها فى مأزق التناقض بين ما تعلنه رسميا من تقدير وتوقير للثورة التى تمثل أساس شرعيتها الدستورية، وبين استمرار الهجوم الضارى عليها من جانب الاعلام المحسوب على الأجهزة الرسمية أو القريب منها.
وهذا العام لم يختلف كثيرا، إذ بينما أشاد السيد رئيس الجمهورية بالثورة التى عبرت عن طموح الشعب المصرى فإن الخطاب الرسمى السائد آثر السلامة وتجاهل الموضوع، بينما لم يخل الأمر من التذكير الإعلامى بما جلبته مؤامرة يناير من فوضى وعنف وخراب.
وإن كان تقييم الثورة سيظل موضوعا يشغل الباحثين والمؤرخين لسنوات قادمة، فإن ما يشغلنى هنا هو اعتقادى بأن ثورة يناير لا ينبغى أن تكون مصدرا للانقسام فى المجتمع بل الارضية الصالحة لبناء توافق وطنى جديد. وهذا يقتضى ــ من وجهة نظرى ــ الاعتراف بأربع حقائق أساسية:
الحقيقة الأولى أن ثورة يناير لم تكن مؤامرة بل انتفاضة شعبية ضد الاستبداد والفساد وأن نجاحها فى إسقاط النظام كان بسبب تضحيات وعزيمة من شاركوا فيها. وما وقع من أخطاء بعدها لا ينتقص من صدق وحماس الجماهير الغفيرة التى نزلت الشوارع رفضا لاستمرار الوضع السابق وأملا فى التغيير، وبالتالى لا ينزع عنها وصف الثورة المجيدة ولا عمن شاركوا فيها صفات البطولة والوطنية.
الحقيقة الثانية أن انتصار ثورة يناير فى يومها الرابع لم يكن على الشرطة المصرية ولا على أى من مؤسسات الدولة الاخرى بل على المنظومة السياسية الحاكمة التى كانت هذه المؤسسات أدواتها التنفيذية. ولهذا فما كان يجب أن يقع أنصار الثورة فى فخ الاعتقاد بوجود عداء مبيت بينهم وبين جهاز الشرطة بل كانت الفرصة متاحة أكثر من مرة لإعادة بناء جسور الثقة بينهما، ولكن نجح أصحاب المصلحة فى اجهاض الثورة فى تعميق الهوة وترسيخ فكرة العداء الحتمى بين الطرفين. وهكذا انقسم المحتفون بالخامس والعشرين من يناير هذا العام إلى فريقين، واحد يراها عيدا للشرطة فقط والثانى يصر على أنها عيد لثورة يناير وحدها. وهذا وضع مؤسف لأن ٢٥ يناير ينبغى أن يكون يوم الاحتفال بلحظتين ناصعتين فى التاريخ المصرى المعاصر، التضحية والفداء من جانب أبطال الشرطة فى مواجهة الاستعمار عام ١٩٥٢ وانتفاضة الشعب ضد الاستبداد والفساد عام ٢٠١١.
أما الحقيقة الثالثة فهى أن غياب القيادة القادرة على توجيه الطاقة الإيجابية للثورة فى أيامها الاولى نحو مسار توافقى دفع بالخلاف بين الثورة والدولة كى يتعمق ويستفحل بسبب المبالغة فى العداء تجاه كل ما كان محسوبا على الفترة المباركية، وتجاهل تطبيق العدالة والقانون بدعوى الحساب والقصاص، والاستهتار بالوضع الاقتصادى المتردى وبشكوى الناس من الفوضى وغياب الأمن، والعجز عن ادارة حوار كان ممكنا وضروريا مع اجهزة الدولة ومؤسساتها. وهذا فى تقديرى هو ما مكن جماعة الإخوان المسلمين من السيطرة على الساحة والانفراد بالسلطة بعد أن مهد لها الانقسام بين الدولة والثورة الطريق ومنحها الفرصة التى ظلت تنتظرها لسنوات طويلة.
وأخيرا فإن الحقيقة الرابعة أن على الدولة إنهاء حالة العداء الظاهرة والضمنية تجاه ثورة يناير والاعتراف بحقيقتها وقيمتها وتقدير تضحيات شهدائها ومصابيها واحترام من شاركوا فيها، والاهم من ذلك الإفراج عن المحبوسين من أنصارها ورد الاعتبار إليهم، لأن أنكار الثورة وما عبرت عنه من رغبة الشعب المصرى فى التغيير لن تؤدى إلا إلى مزيد من الانقسام فى المجتمع ومزيد من عزوف الشباب عن المشاركة ومزيد من عزلة الدولة عن جمهور كبير شارك فى الثورة أو ناصرها على أى نحو آخر، وهو جمهور قد يكون صامتا الْيَوْمَ بسبب ما تتعرض له الثورة من هجوم وتشويه مستمر ولكنه لم يتخلَ عن أحلامه فى بناء وطن يسوده العدل والمساواة والحرية.