مضى جَمعٌ من الرّجال والصِبيَة بين البيوت الهادئة، وقد ارتدوا الجلابيب وحملَ كلٌّ منهم آلةً موسيقية، واندمجوا في عَزفِ إيقاعاتٍ مُتنوعةٍ تتَخلَّلها ألحانٌ بَسيطة؛ صادرةٌ عن أدواتِ نفخٍ وأكورديون وربابة. خليطٌ عجيبٌ أسفَرَ عن خُروج بعض السُّكان إلى شُرفاتِهم ونَوافذِهم، وإلقائهم مبالغَ مالية لفرقةِ العازفين؛ إما تعبيرًا عن الإعجاب، أو رغبةً في إسكاتِ الصَّوتِ العالي خلال ظهيرةٍ ثقيلة. سواء كان هذا السَّببُ أو ذاك، فوسيلةُ شِحاذةٍ طريفة؛ أثبتت بالتكرار فاعليتِها بعدما فَقَدت الوسائلُ الأخرى أثرَها.
• • •
الشَّحَّاذ في مَعاجم اللغةِ العَربيةِ هو المُتسوّل، والشِحَاذة حرفته؛ والقَّصد منها طلبُ الصَّدَقة والإحسانِ بإلحاحٍ لا يَفتُر ولا يَنقضي؛ وجدير بالذّكر أن ثمَّة مِهنةً تحملُ الاسمَ ذاته؛ لكنها تُشير إلى الشَّخصِ الذي يَطوفُ هنا وهناك فيُعلن الناسَ بقُدرتِه على إعادةِ السَّكاكين الصَدِئة البَليدة إلى حالِها الأولى؛ لتصبح نصالُها حادةً مَشحوذة. يُستخدَم الفعلُ شَحَذَ بأكثر من معنى؛ فقد يَشحذُ المرءُ ذهنَه، أيّ يبذل جهدًا في التفكير، وقد يَشحَذ سلاحَه بغيَة استخدامه، أما إذا شَحَذ لسانَه فقد أعدَّه للانطلاقِ في مَوقف يحتاج كلامًا بتارًا قاطعًا. درجنا على استبدالِ التاءِ بالذاي في هذه المُشتقات كلها؛ ليصبح لدينا الشَّحات والشَّحاتة ويَشحَت عليه أو منه وغيرها؛ إذ النطقُ باستخدامِ التاءِ أسهل ولا شكَّ، فلم تعتد ألسنتُنا حَرفَ الذاي، ولم تألفْ التفرِقةَ بينه وبين الظاءِ والزين على مرّ الأعوام.
• • •
أخرجت أسماءُ البكري فيلم "شحاذون ونبلاء" عن رواية مصورة لألبير قصيري في مطلع التسعينيات؛ وتدور حول ثلاثة أشخاص يحيون في تشرد وانعدام للمسئولية وغياب تام للحسّ الاجتماعي، والفيلم يُساءِل حالَ التكاسُل والعَبَث واللا مُبالاة، وقيمتها مقابل الجَدّ والسَّعي، والحقُّ أن هذه المُساءَلةَ جديرةٌ بإعادة الطرح، فواقعنا الراهن يثير الشكوكَ في جدوى أفعالٍ سلبية كثيرة ، ويحثُّ على البحثِ عن مساراتٍ بديلة، تُغير من أوضاع البؤس المُتفشية.
• • •
ترتبط الشحاذةُ بدرجةٍ مُتدنية من الفَقر؛ لكنها قد تكون في بعضِ الأحيانِ علامةً ثروةٍ مَوفورة، وقد عرِفنا عن بعضِ الشَّحاذين العتاةِ مِقدارَ ما جمعوا مِن أموال؛ تكشَّف حجمُها بعد الوفاة، فتبين أنهم مِن أصحابِ الأملاكِ والعَقارات، وأنهم أكثر غِنى من مَجموع من أعطوُهم.
• • •
في الستينينات، غنّى صاحبُ الصَّوت العَذب محمد فوزي بالاشتراك مع ليلى مراد أغنيةَ "شحات الغرام"، من ألحانه وكلماتِ بديع خيري؛ فكانت من أخفّ وألطف الأعمال، وقد وجدت صداها بعد عقدين تقريبًا في أغنية بالعنوان ذاته، للمُطرب الفرنسي جزائري الأصل أونريكو ماسياس. الغرامُ في العادة لا يقبل التسوُّلَ ولا يُوهب كمِنَّة أو مِنحَة، لكن الوَلِه المُتدَلِه يرضى بنظرةٍ أو بَسمة، أو حتى بزجرةٍ وإيماءة.
• • •
كثير الشَّحاذين مُحترفون، يعرفون الأماكنَ التي يُمكن الحصولُ منها على غنيمةٍ أكبر، ويعلمون بخبرتهم مَن المارة سوف يُعطيهم ومَن سوف يتجاهلهم، وقد ارتبط فعلُ الشَّحاذة في حديثنا العفويّ بمنطقة السيّدة زَينب وتحديدًا بمَسجدها؛ إذ الحال أن الخارجين منه بعد تأديةِ الصَّلاة، يَجدون في أنفسِهم ميلًا لفعلِ الخَير، ومن ثمّ يَجودون بما في جِعابِهم على الواقفين المُتأهبين.
• • •
ثمَّة تنظيمات ومَجموعات تضمُّ أنواعًا من المُتسولين؛ يديرها في العادة شخصٌ واحد ويتحصَّل من أعضائها على نسبة مما جنوا؛ لقاء توفير الحِماية والسَّماح بالعمل في منطقةٍ بعينها. كثيرنا قد صادف امرأةً تجلسُ في مكانٍ نائيّ لا يُمكن أن تصلَه إلا بمساعدة، تضع رضيعًا غائبَ الوعي على كتفها وتمدُّ يدها طالبة "أي حاجة للعيل" وتكرر على المارة كلماتٍ مَحفوظة. الصَّغير على الأغلبِ مَخطوفٌ من أهلِه، فالمرأةُ لا توليه أيَّ قدرٍ من العناية يَشي بأنه من رَحمها، والمَوقفُ برمته يدعو لا للشفقة؛ بل للغضَب.
• • •
كتبَ نجيب محفوظ روايته القصيرة "الشَّحاذ" ونشرها في النصف الأول من الستينيات لتصدرَ في طبعات مُتعددة، والروايةُ مَشحونةٌ بالرَّمز كعادةِ مَحفوظ، مُحمَّلة جنباتُها بالفلسفة الباحثةِ في عمق الوُجود، أما الشحاذ المقصود؛ فلا يعاني نقصَ المالِ وقلةَ المَوارد؛ بل يفتقر إلى ما يملأ الروحَ ويُثريها ويجعل لحياتِه مَعنى.
• • •
سمعت من جَدَّتي بعض مَراتٍ المثل الشهير: "علمناهم الشِحاتة سَبقونا على الأبواب"، والمَعنى أن التلميذَ قد يتفوَّق على مُعلمه أحيانًا ولا يَستحي أن يُزاحمَه؛ مُتجاهِلًا ما ينبغي أن يحملَ اتجاهه من عِرفان.
• • •
مِن قاموسِ الشَّحاذين المَعروف أن تُطلَب المَعونةُ في صِيغة: حَسنة لله، وكأن طالبَها مُتعفّف عنها، يُذكر الناسَ بأنها ليست له؛ إنما ابتغاءَ مَرضاةِ الرَّب، وإذا كان الرَّبُّ في جانبِ الشَّحاذ؛ لم يعد مَنطقيًا أن يرفضَ أحد المُوسِرين مُساعدته. ثمَّة عبارةٌ مَأثورةٌ أظنها لم تعد تطرقُ الآذانَ إلا فيما ندر: "حَسَنة قليلة تَمنَع بلاويَ كثيرة وهنيًا لك يا فاعل الخير". العبارة طويلة لها وقع مُوسيقي لا يُنكر، وقد صادفتها منذ زَمنٍ وَلَّى مُلحَّنةً مَنغومة؛ لكن الوقتَ صار قصيرًا مشحونًا، لا براح فيه لتجويد، وقد فَقَدَت الشّحاذةُ جانبَها الفنيّ الأصيل وتحوَّلت إلى فعلٍ قَسريّ، قد يتخلَّله بعض المرات لومٌ وعنفٌ وتأنيب.
• • •
قد يُسمي الأهلُ الولدَ ما طال انتظاره باسمٍ غير مَألوف ولا مُستساغ مثل الشَّحات، والدافع اعتقادٌ راسخٌ دفين في قدرة هذا الاسمِ على مَنع الحَسَد وصدّ العَين، وحماية الصَّغير من الشُرور إلى أن يشتدَّ عوده، ويصبح قادرًا على حمايةِ نفسه.