الأستاذ بول صامويلسون (Paul Samuelson)، اقتصادى أمريكى كبير، وصف بأنه أكبر اقتصادى أكاديمى فى القرن العشرين، وكان أول من حصل على جائزة نوبل فى علم الاقتصاد. أذكره لأن له كلمة مدهشة عن ظاهرة التضخم، أى ميل المستوى العام للأسعار إلى الارتفاع الملحوظ، قد نستغرب ان تصدر عن اقتصادى كبير مثله قال ان التضخم فى النظام الاقتصادى الحديث «مثل مرض الملاريا، ولكنه بعكس الملاريا، لا يُعرف له علاج». فكيف يصدر عن اقتصادى كبير هذا الاعتراف بالعجز عن تقديم حل لمشكلة مهمة كهذه؟
المشكلة مهمة بالطبع، فى مصر كما فى غيرها من البلاد. فمنذ وقت طويل لم ينقطع الكلام فى مصر عن «تخفيف الأعباء عن محدودى الدخل». ولكن من أكبر هذه الأعباء الارتفاع المستمر فى الأسعار. ومنذ ثورة يناير 2011 تكررت المطالبات والاعتصامات الفئوية لزيادة الأجور والرواتب، ووعد رئيس للوزراء بعد آخر بالعمل على تحقيق ذلك، وصدرت قرارات بفرض الحد الأدنى للأجور، ولكن ارتفاع الأسعار يمكن فى وقت قصير أن يجعل من قرارات رفع الأجور والرواتب حبرا على ورق، وأن يجعل رفع الحد الأدنى للأجور عديم الفائدة فى رفع مستوى المعيشة، كما قد يصيب فى مقتل هدف تحقيق العدالة الاجتماعية، الذى تكررت أيضا المطالبة به بعد الثورة، إذ إن ارتفاع الأسعار يؤدى إلى زيادة الأرباح فى ناحية، ويخفض الدخل الحقيقى للعمال والموظفين، فى الناحية الأخرى، فتتسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
ولكن كيف نفسر هذا الاعتراف بالعجز عن حل مشكلة بهذه الأهمية؟ التفسير الذى أرتاح إليه هو ان ما يقدمه علم الاقتصاد من أسباب لتفسير التضخم، وما يقترح أحيانا من حلول لعلاجه، يشوبه دائما «تحيز طبقى»، أو بعبارة أكثر صراحة، ان الاقتصاديين لا يحبون عادة الافصاح عن المسئولين الحقيقيين عن حدوث التضخم، وعن المقاومين الحقيقيين لاتخاذ الإجراءات اللازمة للقضاء عليه، ويفضلون بدلا من ذلك إلقاء المسئولية عن التضخم على مجهول.
إن أشهر النظريات الاقتصادية السائدة فى تفسير التضخم هى نظرية «النقديين» التى ترجع ارتفاع الأسعار إلى الزيادة فى الكمية المعروضة من النقود. وهى نظرية لا يمكن وصفها بأنها خاطئة، بل هى اسوأ من ذلك، إذ إنها مجرد بديهية لا تقدم ولا تؤخر، من نوع «تفسير الماء بعد الجهد بالماء». فارتفاع الأسعار لابد أن يقترن بالضرورة بزيادة حجم النقود المتداولة. بل ان من الممكن القول إن كلتا العبارتين: «ارتفاع الأسعار» و«زيادة حجم النقود المتداولة» تكاد تكونا مترادفتين. ولكن هذه الزيادة فى عرض النقود يمكن ان يكون لها أكثر من صورة وأكثر من سبب. فهناك أولا العجز فى موازنة الحكومة (أى زيادة الانفاق الحكومى عن الإيرادات)، وهذا أيضا قد تكون له أسباب كثيرة، بعضها يخدم الأغنياء (كزيادة سعر الفائدة على ما تتلقاه الحكومة من قروض من الأغنياء، أو الانفاق على المزايا النقدية والعينية التى يتمتع بها المسئولون الكبار)، وبعضها يخدم الفقراء (كالانفاق على خدمات الصحة والتعليم التى تقدم مجانا للفقراء، أو تقديم الدعم لبعض السلع الضرورية). ومن ثم فإن القول بضرورة تخفيض عجز الموازنة كعلاج لمشكلة التضخم لا يكفى لمعرفة من الذى سيضار ومن الذى سيفيد من هذا العلاج.
هناك أيضا سبب آخر محتمل للتضخم، كالسماح باسيتراد سلع أجنبية من أصناف عالية السعر، فقدته بحملة دعاية واسعة تمكنها من مناقشة سلع وطنية منخفضة الجودة والسعر، فإذا بالأصناف المستوردة تقضى على الأصناف المنتجة محليا، ولا يبقى فى السوق إلا سلع مرتفعة السعر لا يقوى الفقراء على شرائها. هناك سبب آخر محتمل للتضخم، وهو التوسع فى إصدار بطاقات الائتمان أو التسهيلات الائتمانية التى تقوم مقام النقود، ولا تعنى أكثر من الشراء الآن مقابل الدفع فى المستقبل. ولكن الفقراء عادة لا يستطيعون اللجوء إلى هذا الطريق لأن المستقبل فى نظرهم مظلم مثل الحاضر. والأغنياء الذين يستخدمون بطاقات الائتمان أو التسهيلات الائتمانية إنما يساهمون فى رفع الأسعار للجميع: أغنياء وفقراء.
•••
من هذا نرى أن القول إن مشكلة التضخم ليس لها علاج ليس قولا صحيحا، بل الصحيح أن علاج مشكلة التضخم له عدة طرق، بعضها يصب فى صالح الأغنياء، والبعض الآخر فى صالح الفقراء، والدولة عليها أن تحدد ما هى الطبقة التى تريد خدمتها. والعادة أن يتم الاختيار لصالح الطبقة التى تسيطر بالفعل على الدولة، وهو ما لا تريد الدولة (ولا معظم الاقتصاديين) الاعتراف به، ومن ثم تفضل الدولة (ومعظم الاقتصاديين) ان تتبع أحد طريقين: إما أن تزعم أنها سوف تعمل على مكافحة التضخم، دون أن تنوى هذا حقيقة، أو أن تزعم أن التضخم مشكلة لا علاج لها، فيستمر الوضع على ما هو عليه.
•••
ولكن فلنفترض افتراضا بطوليا ومثاليا جدا، وهو أن لدينا دولة محايدة وحسنة النية، وتقول الصدق، وترغب بالفعل فى مكافحة التضخم لتخفيف أعباء الفقراء. فما الذى تستطيعه هذه الدولة عملة اليوم فى ذلك العصر الجديد الذى تسيطر فيه الشركات العملاقة (المسماة أيضا بالمتعددة الجنسيات) على الأسعار؟ بما تتمتع به هذه الشركات من قوة احتكارية، وقدرة غير مسبوقة على تطويع المستهلكين وتشكيل رغباتهم، بل وتفرق ارادتها على الدولة نفسها، كما تفرض إرادتها على الهيئات الدولية التى تتظاهر بالحياد وحسن النية. ان هذه الشركات أصبح لها القدرة على الضغط من أجل «الانفتاح»، بما فى ذلك الانفتاح على التضخم المستورد، وعلى إجبار الحكومات على الدخول فى معاهدات دولية تمنعها من تقييد حرية هذه الشركات، وتجبرها على الانصياع لتوصيات الهيئات الدولية التى لا تعطى القروض إلا مقابل تطبيق الدولة لما تريده هذه الشركات. قد تصر هذه الهيئات الدولية على تخفيض العجز فى موازنة الدولة، ولكنها لا توافق على أن يكون هذا التخفيض بوسائل تتعارض مع مصالح هذه الشركات، كفرض ضرائب جديدة مثلا على أرباحها، وتفضل أن يكون تخفيض العجز عن طريق تخفيض الدعم المقدم لتخفيض أسعار السلع التى يشتريها الفقراء.
لقد دخلنا عصر سيطرة الشركات الدولية العملاقة منذ نحو أربعين عاما، فارتفع معدل التضخم فى هذه الأربعين عاما بأكثر مما حدث فى أى وقت فى الماضى (باستثناء فترات قصيرة شديدة الصعوبة) حدث هذا ليس فى مصر فقط بل وفى العالم ككل. لا عجب أن تجد الحكومات نفسها مضطرة إما إلى تجنب الكلام عن مشكلة التضخم، أو إلى تقديم الوعود المعسولة عن ضرورة مكافحة التضخم، دون أن تفعل أى شىء على الإطلاق لتنفيذ هذه الوعود.