اليوم: الجمعة، التوقيت: العاشرة صباحاً، المكان جامعة نيويورك ... يوم هادئ نسبياً وإن كان يوم عمل (وليس أجازة كما في بلادنا)، المكان: الغرفة 654 من قسم الصحافة، في هذه الغرفة تجمع تسعة من الأشخاص يتقابلون لأول مرة: ثلاثة من كلية الطب وإثنان من قسم علوم الحاسب (منهما كاتب هذه السطور) وواحد من قسم علم الأعصاب (ترجمة غير دقيقة لكلمة Neuroscience ولكني لم أجد غيرها) وواحد من قسم الفيزياء وواحد من قسم الأحياء وواحد من قسم علم النفس ... تجمعوا في أول محاضرة في سلسلة محاضرات مخصصة لأعضاء هيئة التدريس في الجامعة بمختلف تخصصاتهم (والتسجيل فيها عن طريق الترشيح من القسم التابع له عضو هيئة التدريس) والعدد الكلي لا يجب أن يزيد عن 10-12 فرد... وإذا نظرت إلى هؤلاء "الطلبة" (أو الأساتذة في مقاعد الطلبة) لوجدت أن منهم من حقق الكثير في تخصصه وخارجه، فمنهم مثلاً من هو في إدارة تحرير مجلة Science أرفع المجلات العلمية شأناً بجانب كونه أستاذاً في الجامعة ومنهم من نشر عدة كتب للعامة وللخاصة ومنهم من يدير معملاً للأبحاث يعمل فيه الكثير من طلاب الدراسات العليا ومرحلة البكالوريوس أيضاً، إذاً فيمكنك أن تتخيل مدى إنشغال جدول أعمالهم، فماذا أتى بهم إلى هنا؟ وما هي حكاية هذه السلسلة من المحاضرة (أربعة محاضرات كل واحدة مدتها 3 ساعات) في الغرفة 654؟
هذه السلسلة من المحاضرات هي دورة مكثفة في الصحافة العلمية أو كيف تخاطب العامة في الأمور العلمية وقد تكلمنا في مقال سابق في هذا الموضوع ثم أعدنا مناقشته هنا، ما هي أهداف هذه الدورة؟ الأصل هو تدريب أعضاء هيئة التدريس من مختلف التخصصات على الكتابة للعامة في موضوعات تخصصاتهم وهي دورة تطوعية أى أن عضو هيئة التدريس من الممكن ألا يدرسها، الجامعة عندها أيضاً دورة مشابهة لطلبة مابعد الدكتوراه (postdoc)، من مناقشتي مع الأساتذة الآخرين معي في هذه الدورة وجدت أن لكل منهم أهدافاً أخرى بخلاف الهدف الأساسي، أحدهم مثلاً يريد أن يكتب كتاباً عن الفيزياء للأطفال لأنه لم يجد أى كتاب يصلح لإبنه الصغير، من الأهداف الأخرى كيفية تحسين كتابة طلبات الحصول على منح تمويل الأبحاث (grant proposals) لأن أغلب من يقيم هذه الطلبات هو من نفس التخصص العام ولكن ليس التخصص الدقيق، من الأهداف الأخرى توسيع دائرة نشر العلم عن طريق كتابة مقالات في مجلات مثل "Scientific American" أو “New Scientist” أو الصفحات العلمية في الجرائد مثل "NY Times" أو مقالات عن موضوع علمي في مجلات مثل "New Yorker" أو "Nautilus" وهكذا.
المحاضر من كبار الكتاب والمحررين فى الصفحة العلمية لمجلة نيويورك تايمز وعضو هيئة تدريس مشارك بقسم الصحافة في الجامعة ومن المصادفات الطريفة أن أحد الكتب التي قرأتها منذ زمن واستفدت منها كثيراً هو كتاب (Wisdom: From Philosophy to Neuroscience) أو "الحكمة: من الفلسفة وحتى علوم الأعصاب" ويتحدث الكتاب عن مفهوم الحكمة في مختلف المستويات العلوم، مؤلف هذا الكتاب هو نفسه المحاضر!
تجربتي في حضور هذه الدورة كانت مثمرة للغاية، فبجانب أنه كان من المطلوب من كل "طالب" كتابة مقالات متنوعة في موضوعات علمية معينة وأن المحاضر كان يعيدها لنا معها ملاحظاته (اللغة الإنجليزية للجميع تقريباً كانت قوية لذلك فأغلب الملاحظات لم تكن نحوية ولكن كانت عن طرق التحدث للقارئ وكيفية جذب إنتباهه) وكان يرسل مقالات الجميع للجميع فكنت تقارن ما كتبته وماكتبه الآخرون، طبعاً ما تعلمته واستفدته من هذه الدورة كبير جداً فبجانب التعرف على علماء آخرين في تخصصات مختلفة والدخول في نقاشات (تكون ساخنة في بعض الأحيان) عن موضوعات علمية والنظر إليها من وجهات نظر مختلفة فما استفدته يجاوز ذلك بكثير، مثلاً كلمة "العامة" ليست كلمة "عامة"!! عندما تقول إنك ستكتب للعامة فيجب أن تعرف أن هذا يتضمن شرائح مختلفة وكتابتك لكل شريحة ستختلف عن الشريحة الأخرى لنفس الموضوع فالقارئ الذي يقرأ الصفحة الأخيرة في الجريدة مختلف عن القارئ الذي يقرأ الصفحة الأولى أو الذي يقرأ العدد الأسبوعي ومن يقرأ جريدة يومية غير من يقرأ جريدة أسبوعية أو شهرية ولكل شريحة طريقة للتعامل معها.
من الأشياء المفيدة والصعبة في ذات الوقت كيفية شرح الموضوع العلمي في شكل قصة (طبعاً القصة يجب أن تكون حقيقية) حتى لا يمل القارئ وهذا يدخل بنا في مجال كبير في الأدب يسمى (Creative Non-Fiction) أو الإبداع في الكتابات الغير روائية وكيفية تطويع ذلك بحسب نوع المقال الذي تكتبه فمقال الرأي مختلف عن مقال إخباري مختلف عن مقال يتحدث عن تجربة شخصية ... هكذا.
عندما تكتب مقال علمي للعامة يجب أن تحدد شيئين: ما الذي ستقوله للناس وما الذي لن تقوله، ونحن دائماً ما ننسى هذا الجزء الثاني فتأتي المقالات مثخنة بالمعلومات التي قد تجعل القارئ يمل أو يقل تركيزه ويتشوش ومن ثم لا يكمل القراءة!
طبعاً لا يتسع المجال هنا للتحدث عن كل ما استفدته من هذه الدورة ولكني سأعود إليها من آن لآخر في هذه المقالات ... أعتقد أنه إذا عممنا هذه التجربه في جامعاتنا ستزدهر الكتابة العلمية للعامة وسيقبل الناس على قراءة المادة العلمية بشغف ... وهذا أول الطريق...