انتهت الجولة الأولى من الانتخابات، وجاءت نتيجتها مفاجأة للجميع، ومحبطة للكثيرين، إذ خرج منها المرشحون التوافقيون نسبيا ودخل جولة الإعادة المرشحان اللذان يعبران عن الانقسام والتوتر السائدين فى المجتمع. ولكن هكذا الانتخابات وما تأتى به من مفاجآت، وما لم يكن فى الأمر تزوير أو تلاعب، فعلينا قبول النتيجة واحترام إرادة الشعب.
الانتخابات الرئاسية فى كل بلدان العالم ليست مسابقة يفوز بها الأفضل ولا الأقدر على الحكم، وإنما ينتصر فيها الأكثر تنظيما وتمويلا وقدرة على الاستفادة بالخريطة السياسية وعلى استغلال مخاوف وآمال الناس يوم التصويت. والانتخابات المصرية لم تخرج عن ذلك. التمويل كان عنصرا حاسما، والتنظيم كان القاسم المشترك بين المرشحين الفائزين، والشعب أدلى بصوته فى ظروف يسودها الخوف والقلق والإرهاق، والمنتمون للتيار الوسطى فشلوا فى الاتفاق على مرشح واحد، فكانت النتيجة الطبيعية أن يفوز فى الجولة الأولى من يمثلان قطبى المعادلة السياسية فى مصر: الإخوان المسلمون من جهة والدولة والمؤسسة العسكرية من جهة أخرى. نتيجة محبطة ولكن علينا قبولها والتعامل معها.
فى جميع الأحوال، فإن أهم نتيجة للمرحلة الأولى، هى أننا مقبلون على اختيار رئيس لن يمثل أغلبية المصريين، بل أقلية محدودة منهم. الذين شاركوا فى المرحلة الأولى أقل من نصف المقيدين بالجداول، وكل من مرسى وشفيق لم يحصل إلا على ربع أصوات من شاركوا. بمعنى آخر فإن الفائز فى الجولة الثانية سيكون مرشحا لم يحصل فى الجولة الأولى إلا على 12% من مجموع أصوات الناخبين المقيدة أسماؤهم، وبالتالى سيكون رئيسا محدود الصلاحية والشعبية، وسوف يلزم عليه أن يبذل جهدا مضاعفا لكى ينجح فى كسب الرأى العام حوله، وهذا مطلوب فى ظل الانقسام الذى يعانى منه المجتمع.
الانتخابات أيضا أبرزت عددا من الظواهر اللافتة، يستوقفنى منها ثلاث تحديدا:
الظاهرة الأولى أن النتيجة جاءت معبرة عن التغير الكبير فى الخريطة السياسية المصرية خلال الأشهر الماضية، خاصة منذ انتهاء الانتخابات البرلمانية. التيار الإسلامى الذى حصل على ما يقرب من 75% من الأصوات فى الانتخابات التشريعية، لم يزد نصيب مرشحيه الثلاثة الأسبوع الماضى على 35% (وذلك حتى مع اعتبار أصوات أبو الفتوح كلها من التيار الإسلامى، وهذه مبالغة غير حقيقية). كذلك فبينما سقط مرشحو الحزب الوطنى فى انتخابات مجلس الشعب برغم ما لبعضهم من رصيد شخصى لا يستهان به،إذا بالتصويت المضاد للثورة هذه المرة يقرب من ربع الأصوات. الخريطة التى اعتمدنا عليها طوال العام الماضى إذن (ربع ليبرالى وثلاثة أرباع إسلامى) اختلفت تماما، وحلت محلها خريطة أخرى أكثر تنوعا وأكثر تعددا وتعقيدا، فلم يعد توقع النتائج بالسهولة التى كان عليها منذ عام أو أقل، وهذه ظاهرة صحية لأنها تدل على أن التنافس مستمر والملعب مفتوح والناس تتابع تصرفات ومواقف السياسيين بدقة وتحاسبهم بقسوة.
الظاهرة الثانية هى استمرار وتصاعد أهمية التنظيم فى حسم المعارك الانتخابية، كما كان الحال فى انتخابات البرلمان. تحليل مكونات التصويت الإسلامى تدل على ذلك. فمن بين مجموع الأصوات التى حصل عليها المرشحان الاسلاميان الرئيسيان، كان لمحمد مرسى نسبة 60% منها، وعبدالمنعم أبوالفتوح 40%. والمقارنة بينهما هى فى الحقيقة مقارنة بين مرشح لا يملك شعبية أو جاذبية شخصية ولكن وراءه التنظيم الأكثر إحكاما وفاعلية فى مصر، وبين مرشح يملك الكثير من الشخصية والجاذبية والقدرة على التواصل مع الناس ولكن لا يوجد وراءه تنظيم. تقدم مرسى على أبوالفتوح هو انتصار للتنظيم على الشعبية الشخصية، وهذا درس للقوى السياسية التى ترغب فى الاستمرار على الساحة، إذ بدون أحزاب وتنظيم وتمويل وبدون قيادات محلية والتزام حزبى (ولو لم يصل إلى درجة السمع والطاعة) فلا أمل لها فى أن تصمد وتنافس. ولعل ذلك يفسر أيضا تقدم أحمد شفيق فى الأيام الأخيرة لو صح أن وراءه تنظيم يعتمد على انحياز الدولة له وعلى الحزب الوطنى وقياداته وتمويله. كما يمكن بذات المنطق تفسير تراجع نصيب عمرو موسى الذى ظل طوال عام كامل الأكثر جاذبية للتيار الليبرالى، ولكن غياب التنظيم وراءه جعل فرصته تنهار فى اللحظات الأخيرة. الاستثناء الوحيد من ذلك هو حمدين صباحى الذى فاق كل التوقعات برغم غياب التنظيم، ولكن لهذا تفسير آخر سنعود إليه.
الظاهرة الثالثة هى الأهمية البالغة لما يسمى بالتصويت الاحتجاجى (أو التصويت السلبى)، أى الذين يدلون بأصواتهم لا لزيادة كفة مرشح يفضلونه، بل للإقلال من فرص من لا يريدون أن يرونه فائزا. وبرغم أنه ليست هناك أرقام تؤكد ذلك، إلا أن لدى انطباع قوى بأن العنصر السلبى كان واضحا فى كثير ممن انتخبوا عبدالمنعم أبو الفتوح احتجاجا على احتكار الإخوان المسلمين للسلطة، وممن انتخبوا أحمد شفيق للتعبير عن رفضهم لمسار الثورة، وممن انتخبوا عمرو موسى رفضا لتحول مصر إلى دولة إسلامية، وممن انتخبوا حمدين صباحى للتعبير عن امتعاضهم من الساسة المحترفين ومن أحزابهم ومن ألاعيبهم ومن مناوراتهم. التصويت الاحتجاجى يؤكده ايضا انخفاض نسبة التصويت فى الانتخابات الرئاسية عن البرلمانية، إذ فضل الكثيرون البقاء فى منازلهم لأن لعبة السياسة بدت لهم عقيمة وغير أخلاقية. وتقديرى أن الجولة الثانية من الانتخابات سوف تحسم بناء على التصويت الاحتجاجى، أى بنزول الناس للتصويت لإسقاط مرشح لا يقبلونه. وهذا درس آخر للسياسيين، أن الناس بمثل ما تنتخبهم وتدفع بهم لمناصب ومواقع، فإنهم أيضا قادرون على الإطاحة بهم ومعاقبتهم إذا تناسوا مشكلات وهموم المجتمع وتعالوا عليها.
لعل هذا كله يفسر النتيجة الغريبة التى انتهينا اليها. المرشح الإخوانى الذى دخل السباق متأخرا وبصفته بديلا وكذلك المرشح الذى يعبر عن النظام القديم الذى أطاحت به الثورة، هما اللذان يدخلان جولة الإعادة، بينما يخرج من السباق من كان يمثل الشباب، ومن كان يمثل الإسلام المعتدل، ومن كان يمثل الطبقة الوسطى، ومن كانوا يتحدثون عن العدالة الاجتماعية. باختصار خرج من كان بوسعهم أن يعبروا عن التوافق والوسطية، وبقى من يعبرون عن الاستقطاب والإقصاء من الجانبين.
الأهم من ذلك أننا أمام واقع جديد، حيث خرج غالبية المصريين من الجولة الأولى دون مرشح مفضل ينتخبونه فى الجولة الثانية، وأمام اختيار محير لكثير منهم. ولهذا دلالة واحدة، وهى أن الساحة السياسية لم تعد تتسع لثنائية الإخوان المسلمون / الدولة والمؤسسة العسكرية وحدهما. البلد بحاجة لطرف ثالث يقيم التوازن فى المجتمع ويعبر عن نصف الناخبين وعن قطاعات واسعة خرج مرشحوها من الجولة الأولى. هذا التيار الثالث ــ الوسطى والمعتدل والمدنى ــ موجود وله أنصاره وجماهيره، ولكنه غير منظم سياسيا وبالتالى غير قادر على التأثير الكافى ولا على الاستمرار فى المعارك الانتخابية حتى النهاية. الوقت حان لكى تتحد قوى التيار الثالث لكى يجد غالبية المصريين موقعا مريحا وطبيعيا لهم على الخريطة السياسية. فى الجولة الثانية سوف ينتخب كل واحد رئيس مصر القادم بما يرتضيه ضميره، أو قد لا ينتخب مطلقا. ولكن الأكيد أن التيار الثالث قد حان وقته وأن استمرار غيابه من على الساحة لم يعد ممكنا ولا مقبولا إذا ما كان لهذا البلد أن يستقر ويهدأ