جلال أمينمن المهم أن نلاحظ الفارق الكبير بين الموقف من الديمقراطية الذى اتخذه الضباط الذين تسلموا الحكم فى فبراير 2011، والموقف الذى اتخذه ضباط ثورة يوليو 1952. إن ما يقرب من ستين عاما تفصل بين الثورتين، وما أكثر ما طرأ على مصر من تغييرات مهمة خلال هذه الستين عاما، فكيف لا نتوقع اختلافا كبيرا بين الموقفين؟
بمجرد نجاح ثورة 1952 فى إزاحة الملك فاروق عن العرش، هرع زعماء الأحزاب الذين كانوا يتداولون الحكم قبل 1952، فقدموا أنفسهم للضباط منتظرين أن يسلمهم الضباط مقاليد الحكم بعد أن قاموا بالثورة مشكورين. ولكن الضباط هم الذين قاموا بشكر زعماء الأحزاب، ثم أصدروا بعد قليل قرارهم بحل جميع الأحزاب.
كذلك ظن الإخوان المسلمون فى 1952 أن فرصتهم قد حانت، إذ كان بعض قادة الثورة من أصدقائهم، بل وكان جمال عبدالناصر نفسه على علاقة طيبة بهم، وحضر بعض اجتماعاتهم قبل الثورة والتف زعماء الإخوان حول محمد نجيب، أول رئيس للجمهورية بعد الثورة، والذى أبدى استعداده للاستماع إليهم، وكان يرى أن يعود الجيش إلى ثكناته ويترك السياسة للسياسيين، ولكن سرعان ما ضحى قادة الثورة بمحمد نجيب نفسه، ونظموا المظاهرات للإطاحة برئيس مجلس الدولة (عبدالرزاق السنهورى) الذى كان بدوره يؤيد عودة الجيش إلى ثكناته، وخلت الساحة للحكم الفردى الذى استمر حتى وفاة عبدالناصر بعد ثمانية عشر عاما من قيام الثورة، مستندا إلى حزب صورى لا صلة له بالديمقراطية، (هيئة التحرير ثم الاتحاد القومى)، رغم إصدار دستور جديد ورغم كل ما جرى من انتخابات.
الحالة مختلفة جدا هذه المرة، بل أحيانا تبدو وكأنها العكس بالضبط. المجلس العسكرى الذى تسلم السلطة فى ١٢ فبراير ٢٠١١ أعلن بمجرد تسلمه السلطة موعدا لإجراء انتخابات مجلس شعبى جديد. والمدهش أن الناس والأحزاب هم الذين طالبوا بتأجيل الانتخابات. وطالب كثيرون بتكوين مجلس رئاسى يجمع بين أعضاء من المجلس العسكرى وبعض المدنيين، فرفض هذا الطلب.
المجلس العسكرى هو الذى يصر على إجراء الانتخابات فى أقرب وقت ممكن، والناس هم الذين يطالبون بتأجيلها.
أقول إن هذا مدهش لأن المعقول أن تتلهف الناس على إجراء انتخابات نزيهة بعد ثلاثة عقود على الأقل من تزوير الانتخابات، وأن يتلهفوا على حكم مدنى بعد ستين عاما من حكم الضباط، ولكننا شهدنا العكس.
صحيح أن الناس أقبلوا إقبالا منقطع النظير على الإدلاء برأيهم فى الاستفتاء الذى أجرى بعد أسابيع قليلة من تنحى رئيس الجمهورية، حول تعديل بعض مواد الدستور. لم يكن هذا التعديل مهما فى الواقع، فالمواد القليلة المهمة بين المواد المعدلة كانت تتعلق بما قامت الثورة أصلا من أجله، ومن ثم فقد عبر الناس عن رأيهم فيها دون حاجة إلى استفتاء، وهى المواد التى وضعت خصيصا لتسهيل توريث الحكم وقضت عليها الثورة قضاء مبرما. بل أقبل الناس على الاشتراك فى الاستفتاء لأنها كانت أول مرة بعد فترة طويلة جدا يبدو فيها الحكام وكأنهم يحترمون الرأى العام، ويريدون أن يعرفوا بالفعل رغبات الناس الحقيقية.
بالرغم من ذلك لم يبد من الأحزاب أو من الناس لهفة على انتخاب برلمان جديد، باستثناء جماعة الإخوان المسلمين وغيرهم من أنصار التيار الدينى. كان الإخوان المسلمون جماعة «محظورة» قبل الثورة، فمن الطبيعى أن يشتاقوا إلى انتخابات يسمح لهم فيها بالمشاركة، ولكن الناس كلهم كانوا «محظورين» بشكل أو آخر قبل الثورة، فما سر ما بدا منهم من قلة حماس للإسراع بإجراء انتخابات، بالمقارنة مثلا بما حدث فى 1954 عندما كانت غالبية الناس والأحزاب تنادى بعودة الجيش إلى ثكناته، بل وترك بعض الضباط الذين قاموا بثورة 1952، مناصبهم انتصارا لعودة الديمقراطية، ورفضا لاستمرار الضباط فى الحكم؟
يدفعنا هذا الفارق الكبير بين الحالين إلى تأجيل ما طرأ من تغييرات، خلال الستين عاما الماضية، على المجتمع المصرى، بحثا عن تفسير للتغيير الذى طرأ على موقف شريحة كبيرة من المصريين من الديمقراطية.
هناك أولا التغيير الذى طرأ على حجم الفساد وطبيعته، لا أعتقد أننى أبتعد عن الحقيقة كثيرا إذا قلت إن الفساد قبيل 1952 كان سطحيا جدا بالمقارنة بالفساد الذى كان سائدا قبل ثورة يناير 2011، وكأننا نقارن بين مرض سطحى، ومحدود فى جزء صغير من الجسم، ومعروف السبب وسهل العلاج، وبين مرض آخر انتشر فى معظم أجزاء الجسم، ويتطلب عملية جراحية خطيرة. من الممكن أيضا القول بأن الفساد الذى جاءت ثورة 1952 لمواجهته كان فسادا سياسيا أكثر منه اجتماعيا، ويتعلق بارتباط السياسة بنظام إقطاعى على رأسه ملك فاسد. ترتب على هذا أن مجرد قيام الضباط فى 1952 بعزل الملك وإزاحة الأحزاب السياسية عن الحكم (ناهيك عن إصدار قانون الإصلاح الزراعى الذى قضى على الإقطاع بجرة قلم، بعد أقل من شهرين من قيام الثورة)، كان كافيا لاستئصال أهم أسباب الفساد فى 1952، ومبشرا بإمكانية قيام نظام حكم سليم يشرع فى تحقيق الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية المطلوبة.
قارن هذا بما كانت عليه الحال عندما قامت ثورة 2011. كان الفساد قد انتشر فى كل مكان وبين كل الطبقات ووصل إلى أعماق المجتمع المصرى. لم يكن الممسكون بالسلطة ينتسبون أصلا إلى طبقة اجتماعية محددة فى أعلى السلم الاجتماعى، بل إن وصولهم للسلطة هو الذى سمح لهم بالانضمام إلى هذه الطبقة. كان من الممكن لأى شخص، مهما كانت جذوره الطبقية أن يصعد للانضمام إلى أصحاب السلطة طالما توافرت فيه المؤهلات الشخصية والأخلاقية (أقصد بالطبع اللا أخلاقية) لهذا الصعود. إننى لا أقصد القول بأن هذا المرض لا يمكن علاجه، ولكن لابد من الاعتراف بأنه مرض عضال، ويحتاج إلى وقت أطول وجهد أكبر لعلاجه، ومن المؤكد أيضا أنه لا يكفى لعلاجه مجرد تنحية بعض الأشخاص عن الحكم. فـ«المؤهلون» للفساد فى مصر أكثر بكثير للأسف من حفنة الاقطاعيين الذين كانوا يحكمون مصر قبل 1952، وهم أقل مبالاة بمصالح الوطن من الفاسدين القدامى. أسباب ذلك كثيرة، مما لا يمكن الخوض فيه الآن، فهدفى الآن هو أن أشير فقط إلى سبب مهم من الأسباب التى تجعل الكثيرين من المهتمين بأمر الإصلاح فى مصر، غير متعجلين لتطبيق «الديمقراطية»، ويفضلون الانتظار حتى تتحقق بعض الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الضرورية للقضاء على الفساد أو على الأقل تقليص حجمه.
●●●
ولكن حجم الفساد وطبيعته ليسا السبب الوحيد لتغيير النظرة إلى الديمقراطية فى مصر. فخلال الأربعين عاما الماضية حدث تطور آخر لابد من الاعتراف به ومصارحة أنفسنا به رغم ما يمثله من حساسية لطائفة كبيرة من المصريين، وهو انتشار ما يمكن تسميته «بالتفسير اللا عقلانى للدين». الدين عزيز علينا جميعا، وهو جزء من تراثنا الغالى، بل ويسرى فى دمائنا، مسلمين كنا أم أقباطا. ولكن ما لا أمل قوله وتكراره هو أن الدين شىء والتدين شىء آخر. الدين ثابت لا يتغير ولكن التدين أشكال وألوان. تغير الظروف الاجتماعية والاقتصادية لا يحدث أى تغيير فى الدين، ولا يمسه من قريب أو بعيد، ولكن لماذا لا نريد أن نعترف بأن تغير هذه الظروف يمكن أن يحدث تغييرات بالغة الأهمية فى شكل التدين، وفى طريقة فهم الدين، وفى ترتيب الأولويات التى نتبناها فى النظر إلى أوامر الدين ونواهيه، وفى نظرنا وطريقة معاملتنا لأصحاب الأديان الأخرى؟ هل قوة العقيدة وشدة الإيمان تمنعان من الاعتراف بأن هناك أشكالا للتدين أفضل من أشكال أخرى، وأقرب إلى روح الدين وأهدافه الحقيقية، وأكثر مساهمة من غيرها فى تقدم المجتمع، وأكبر مساهمة فى إشاعة المحبة والوئام بين أصحاب الوطن الواحد؟
لا يجب أن تمنعنا قوة العقيدة وصدق الإيمان من الاعتراف بذلك. وهذا الاعتراف يقودنا إلى الاعتراف أيضا بأن عقودا طويلة من تطبيق سياسات اقتصادية حمقاء، وسياسات اجتماعية تفرق بين الناس بدلا من التقريب بينهم، ومن الاستبداد بالحكم وحرمان الناس من التعبير عن أنفسهم بحرية، أدت للأسف إلى تنمية ما أسميه «بالتفسيرات اللا عقلانية للدين»: تفسيرات متشددة أكثر من اللازم، وتساهم فى إثارة البغضاء بين الأديان المختلفة بدلا من التسامح والمحبة، وتقدم الدين للناس وكأنه كل الحياة وليس فقط جزءا مهما منها، وتعطى الأولوية لمراعاة جوانب شكلية فى الدين لا تساهم فى تقدم المجتمع.
●●●
من المعترف به من الجميع أن أقوى تيار سياسى فى مصر الآن هو التيار الدينى، سواء ممثلا فى جماعة الإخوان المسلمين أو فى جماعات أخرى مختلفة ممن يسمون بالسلفيين. وقد سمح قيام ثورة يناير لجماعة الإخوان المسلمين بممارسة نشاطهم السياسى بحرية، وسمح لحزب الوسط، الذى يتكون من أعضاء كانوا أصلا من الإخوان ثم انشقوا عنهم، بالوجود القانونى بعد سنوات طويلة من حرمانه من هذا الحق. بل وأطلق سراح بعض أفراد من تنظيمات سلفية اشترك بعضهم فى تنظيم اغتيال رئيس للجمهورية (أنور السادات) بعد عدة سنوات من انتهاء مدة العقوبة، وسمح لجهاز التليفزيون باستضافة زعيم منهم أدلى فيه بتصريحات مدهشة فى تبرير قتل رئيس الجمهورية. فى هذا المناخ الجديد نشط كثير من الكتاب المتعاطفين مع التيار الدينى، فدافعوا بصراحة أكثر من ذى قبل عن نوع أو آخر من الحكومة الدينية، وإن كان بعضهم قد استخدم تعبير «حكومة مدنية ذات مرجعية دينية». وقد أثار هذا كله مخاوف الرافضين لأى نوع من الحكومة الدينية، وعبروا عن هذه المخاوف فأنبرى لهم أنصار التيار الدينى يتهمونهم بأنهم ليسوا مؤمنين بدرجة كافية، أو لا يحبون الإسلام بدرجة كافية، وأنهم يخفون مشاعرهم الحقيقية نحو الدين تحت شعار الحكومة المدنية، بينما هم يقصدون فى الواقع حكومة تتنكر للدين. بل لقد بدأ هذا من لحظة الإعلان عن الاستفتاء على إدخال بعض التعديلات على الدستور، إذ حدث استقطاب مفاجئ لم يكن له أى مبرر بين أنصار التيار الدينى وغيرهم، بزعم أن الذين يرفضون التعديلات البسيطة ويفضلون وضع دستور جديد، إنما يقصدون بالذات تعديل المادة الثانية من الدستور التى تتعلق بالشريعة الإسلامية.
كم كان محزنا هذا الاستقطاب المفاجئ، وما كان أغنانا عنه، والذى لا تفسير له فى رأيى إلا ما أشرت إليه طول عهدنا بمناخ اقتصادى واجتماعى وثقافى يشجع على تغليب العاطفة على العقل، فاستمرار الفقر والتفاوت الصارخ فى الدخول، وانتشار الفساد والسلوك السفيه من جانب أصحاب الدخول العليا، ألهب عواطف الناس وزاد بترفهم بالحياة إلى درجة دفعتهم إلى التعلق بشعارات مبهمة لا تترجم إلى سياسات واقعية، ولا تميز بين تفسير للدين يدفع بالأمة إلى الأمام ويوحد بين أجزاء الأمة، وتفسيرات أخرى تعمل على إحداث العكس بالضبط.
●●●
السبب الثالث الذى يخلق مشكلة حقيقية أمام التحول إلى الديمقراطية فى مصر هو ما حرم منه المصريون لمدة تكاد تصل إلى ستين عاما من ممارسة حق التعبير الحر عن النفس، وتكوين الأحزاب والتلاقح الحقيقى بين الأفكار. فرغم الاختلاف فى درجة الديكتاتورية وتغيير الحريات بين فترة وأخرى منذ قيام ثورة 1952، ليس من التعنت وصف هذه الفترة الطويلة كلها التى انقضت منذ قيام تلك الثورة، بأنها كانت فترة احتكار حزب واحد، هو الحزب الممسك بالسلطة، لحق اتخاذ القرارات المهمة، دون السماح لسائر المصريين بالمساهمة فى تشكيل هذه القرارات. كانت بعض الفترات أكثر وطأة من غيرها من تقييد الحريات، وتظاهر الحكام فى بعض الفترات دون غيرها بأنهم يريدون حقا الاستماع للرأى الآخر، ولكن الحقيقة كانت عكس ذلك. وكانت النتيجة البائسة لهذا كله أن وجدنا الفكر السياسى فى مصر، بعد نجاح ثورة 25 يناير 2011، فى حالة يرثى لها من الضمور والبلادة والخواء، هى التى نعيشها الآن. شعارات لا يفصح عن مضمونها، أو ترديد كليشيهات عفى عليها الزمن، أو تقديس زعماء ظهروا فى ظروف مختلفة تماما، وتجاهل يدعو للأسى لما حدث من تطورات فى العالم الخارجى، فى الواقع والفكر السياسى على السواء.
بدا حال المشتركين فى الجدل السياسى عقب ثورة 2011، كحال أهل الكهف الذين خرجوا لتوهم من سبات عميق استمر مئات الأعوام، ففوجئوا بالضوء الساطع خارج الكهف، وبأجسام غريبة لا يذكرون أنهم رأوا مثلها من قبل. وفى مثل هذه الحال، لابد أن يتفوهوا بكلام ويدلوا بآراء لا تعبر عن الواقع ولا تلائمه. أنصار التيار الدينى يقولون كلاما لابد أن رجلا كالشيخ محمد عبده لم يكن ليصدق أن يسمعه بعد وفاته بمائة عام، من نوع الجدل حول ما إذا كان الاحتفال بشم النسيم حلالا أم حراما. وأنصار الناصرية يتكلمون وكأن جمال عبدالناصر لم تمض ستون عاما على قيامه بالثورة وأربعون عاما على وفاته. وأصحاب الفكر الماركسى الذين ظلوا صامتين على انضمام بعض قادتهم لصفوف الحكام ولم يعيدوا تنظيم حزبهم إلا بعد قيام ثورة يناير، لم يحاولوا إعادة التفكير فى مغزى الماركسية فى العصر الذى نعيش فيه. وأنصار الحزب الليبرالى الذى لعب دورا مشرفا للغاية فى فترة ما بين الحربين العالميتين، فى الانتصار للقضية الوطنية والليبرالية، رضوا بالعيش على ذكرى ذلك المجد القديم، لم يقدموا أى أفكار جديدة لا فى الليبرالية ولا فى تحرير الوطن من التبعية، بل لقد فاجأتهم ثورة 25 يناير، بعض زعمائهم وهم متلبسون بالاشتراك فى جريمة شراء جريدة متحررة بغرض إسكات صوتها. ماذا بقى غير ذلك غير أحزاب لها أسماء فخمة دون فكر جديد من أى نوع؟
ثلاثة عوامل إذن تعرقل المسار نحو الديمقراطية فى مصر، وتجعل من الصعب الاطمئنان إلى ما يمكن أن تسفر عنه أى انتخابات تجرى الآن، أو حتى بعد بضعة شهور، مهما كانت هذه الانتخابات نزيهة. فهل هناك ما يمكن عمله لضمان الحصول على نتائج أفضل؟ هذا هو ما سأحاول مناقشته فى المقال القادم.