سوف أعترف الآن للقارئ اعترافا أعتبره خطيرا، وهو أننى أصبحت مع مرور الأيام، ضعيف الثقة جدا بقدرتى على تغيير العالم، وأعتقد الآن أن أقصى ما يمكن أن أطمح إليه هو أن أفهمه.
إننى لا أقصد بذلك فقط شخصى الضعيف، بل أقصد أيضا كل من يشتغل بحرفة لها علاقة بالكتابة والنشر والفكر. فنحن جميعا (هكذا اكتشفت أخيرا) لا نستطيع كما كنا نظن أن نشكل العالم على هوانا، ولا حتى أن نحدث فيه تغييرا ذا شأن، إذ إن القوى التى تشكل العالم حقا، وتغيره من حال إلى حال، لا تتأثر بآراء المفكرين والكتاب، بل بأشياء أخرى لا علاقة لها بالفكر، أو على الأقل لا علاقة لها بذلك النوع من الفكر الذى نشتغل نحن به.
•••
عندما كنا نقرأ الكتابات الماركسية ونحن فى مطلع الشباب، وقد ارتفعت طموحاتنا إلى عنان السماء، عما يمكن تحقيقه لأوطاننا، من رخاء وعدالة فى توزيع الدخل والثروة، كانت تستهوينا الفكرة الماركسية عن حتمية التقدم، أى أن العالم يتقدم باستمرار من الأسوأ إلى الأحسن، والاعتقاد بأن الاشتراكية قادمة لا محالة (المسألة فقط مسألة وقت). كان هذا الاعتقاد يتفق تماما مع طموحاتنا وحماستنا، إذ يطمئننا على أن المستقبل لابد أن يكون أفضل من الحاضر. قد يبدو غريبا الآن أننا لم نجد أى بأس فى الاعتقاد أيضا بصحة رأى ماركس فى أن دور المؤمنين بالاشتراكية والداعين إليها، هو دور بسيط للغاية بالمقارنة بالقوى الأخرى (وعلى الأخص التقدم التكنولوجى). فالتقدم التكنولوجى (هكذا كان يقول الماركسيون) لابد أن يؤدى إلى الثورة الاشتراكية فى النهاية (عن طريق تأثيره فى تطور الصراع الطبقى). أما دور المفكرين الاشتراكيين والمناضلين من أجلها، فلايزيد على دور القابلة (أى المولدة أو الداية) التى لا تساهم بأى دور فى تشكيل المولود، ولا حتى فى توقيت خروجه إلى الحياة، بل تساعد فقط فى عملية خروجه من رحم الأم. كنا على استعداد عن طيب خاطر، بأن نقتنع بهذا الدور المتواضع (دور القابلة) ما دمنا سنساعد على خروج هذا المولود الرائع، أى الاشتراكية إلى الوجود.
بصراحة، لقد أصبحت مع مرور الأيام، أشك فى أن لنا حتى هذا الدور المتواضع. الجنين يتكون، ويكبر حجمه، ويخرج فى النهاية إلى الحياة، دون أن يكون للكتاب والمفكرين، أى دور يستحق الذكر. هكذا على الأقل أشعر الآن.
ما السبب فى هذا التغير؟ هل هو مجرد تقدمى فى السن، وزيادة خبرتى ومشاهداتى فى الحياة، ومعرفتى بمجرى التاريخ؟ انظر مثلا لما حدث للثورة الفرنسية، بعد أن مضى عليها قرنان من الزمان. لقد ظللت مدة طويلة (مثل كثيرين غيرى) نعتقد أنه لولا أفكار وكتابات مفكرين مثل فولتير ومونتسكيو، ما كان الثورة الفرنسية أن تقوم. ولكن انظر إلى ما حدث بعد قيام الثورة. إن أفكار الحرية والمساواة والإخاء ساهمت إلى حد ما، بلا شك، فى إشعال حماسة بعض الناس الذين قاموا بالثورة، واستمرت، ولاتزال، تثير آمال الناس وتطلعاتهم إلى مستقبل أفضل، ولكن لنسأل أنفسنا بصراحة ما حجم التقدم الذى أحرزه الناس، سواء فى فرنسا أو فى أى بلد آخر فى العالم، منذ الثورة الفرنسية، فى تحقيق المساواة والحرية والإخاء، إذا غضضنا النظر عن سقوط الإقطاع وحلول الرأسمالية محله؟ إلى أى مدى تتفق آمال هؤلاء المفكرين العظام مع ما حدث بالفعل من حلول ديكتاتورية المال محل استبداد الملوك والأمراء؟ لابد أن شيئا آخر كان يحدث من وراء ظهورنا (غير دعوات المفكرين ونظرياتهم) لكى ينتج ما نراه بالفعل من طول استبداد محل استبداد، ومجئ نوع جديد من التمييز ليحل محل الأنواع القديمة.
أو فلننظر إلى الثورة الروسية بعد أن مر عليها ما يقرب من قرن كامل. لقد كان حماس الناس لها، وقت قيامها فى 1917، طوال العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، قويا ومنتشرا حتى بين كبار المثقفين فى الغرب والشرق. وذهب بعض كبار الكتاب الإنجليز من أمثال برتراند راسل وبرناردشو إلى موسكو، رغبة منهم فى فهم ما الذى حدث بالضبط، وكتب سيدنى وبياتريس ويب كتابا أطلقا فيه على ما يدور فى روسيا وصف (بناء حضارة جديدة). ثم انظر ما الذى حدث بعد ان تسللت الأخبار خفية فى البداية ثم تحولت إلى فضائح مدوية عما فعله ستالين بمعارضيه، ودرجة القسوة التى عامل بها كل من جرؤ على الاختلاف معه فى الرأى، حتى اكتشف الناس فى النهاية أن الأفكار والنظريات شىء، والطبيعة الإنسانية شىء آخر، فيما تنطوى عليه من رغبة فى التسلط وإثبات التفوق على الغير، إن لم يكن من خلال ملكية الأموال فعن طريق احتكار السلطة السياسية. أما سقوط الشيوعية فى النهاية، وعودة روسيا إلى ما يشبه الرأسمالية من جديد، فلم يكن بدوره نتيجة انتصار فكرة على فكرة، أو مذهب على آخر، بل الأرجح أنه كان نتيجة للتطور التكنولوجى الذى يغير رغبات الناس، ومن ثم يفرض عليهم استبدال نظام بآخر.
إننى أستطيع للتدليل على صحة القول بضآلة أثر الفكر بالمقارنة بعوامل أخرى لا سيطرة للمفكرين عليها، أن أضرب للقارئ مثالين آخرين على الأقل، من التاريخ المصرى، يتعلق أولهما بثورة 1952، وما حدث بعدها حتى حدثت هزيمة 1967، ويتعلق الآخر بثورة 25 يناير 2011 وما نجد أنفسنا فيه الآن. ولكن هذا يحتاج إلى مثال آخر.