إذا كانت المشاركة فى الانتخابات وإبداء الرأى فى الاستفتاءات، حق وواجب على كل مواطن بحسب ما نص الدستور والقانون، فإن الأوجب هو «التخلف» عن ممارسة هذا الحق، فى حال وقر فى قلب هذا المواطن وعقله أنه لا جدوى من العملية الانتخابية من الأساس، وأنه ليس طرفا أصيلا فى اختيار أعضاء المؤسسة المراد تشكيلها، أو لعدم قناعته بصلاحيات تلك المؤسسة أو بالمترشحين لها.
قبل أيام أصدرت الهيئة الوطنية للانتخابات قرارا بإحالة الناخبين الذين تخلفوا عن التصويت فى الجولة الأولى من انتخابات «الشيوخ» إلى النيابة العامة، لتوقيع الغرامة عليهم تطبيقا لنص المادة 57 من قانون مباشرة الحقوق السياسية والتى نصت على «يُعاقب بغرامة لا تجاوز 500 جنيه من كان اسمه مقيدا بقاعدة بيانات الناخبين وتخلف بغير عذر عن الإدلاء بصوته فى الانتخاب أو الاستفتاء».
رئيس الهيئة المستشار لاشين إبراهيم أكد أن هيئته حثت الناخبين على أداء واجبهم الوطنى والدستورى والإدلاء بأصواتهم فى تلك الانتخابات، وطالبتهم على مدار مراحل العملية الانتخابية بـ«عدم التقاعس عن المشاركة لما يمثله من جريمة فى حق الوطن».
أثار إعلان الهيئة جدلا واسعا حول إمكانية تنفيذ قرر إحالة ما يقرب من نصف الشعب المصرى إلى النيابة لتوقيع الغرامة عليهم باعتبارهم «متخلفين»، وكيفية تقدير تلك الغرامة وتحصيلها، كما فتح باب الاجتهاد فى تفسير مصطلحى «حق الانتخاب» الذى ورد فى الدستور و«الواجب الوطني» الذى أوردته مواد قانون مباشرة الحقوق السياسية، فالمواطن غير ملزم بأداء الأول «ومن حق الناخب أن يستخدم هذا الحق أو يتنازل عنه»، أما الثانى فتركه يستوجب المساءلة والعقاب، وفق رؤية فريق من القانونيين، وبالتالى فإن نص القانون على عقوبة مالية يشوبه عوار دستورى، بينما يرى فريق آخر أن الدستور عندما أحال للقانون «تنظيم مباشرة هذا الحق، أو الإعفاء من أداء هذا الواجب» فقد منح الغطاء الدستورى لأى عقوبة مقررة.
على أى حال وبعيدا عن هذا الجدل، فإن بيت القصيد وما يعنينا فى المقام الأول هى الأسباب التى دفعت أكثر من 85% من الجمعية الناخبة للشعب المصرى لـ«التخلف» عن ممارسة حقه أو التقاعس عن أداء واجبه الوطنى، أو ما درج على وصفه بـ«العزوف» عن المشاركة فى الاستحقاق الانتخابى.
الحقيقة أن المواطن المصرى الذي تخلف عن «العرس الديمقراطي» ليس عن تقصير فى أداء واجبه أو تنازلا عن حقه أو عن قلة وعى بقيمة صوته، بل عن وعى كامل بعدم جدوى المشاركة فى اختيار أعضاء مجلس لم يمنحه المشرع الدستورى أو القانوى أى صلاحيات رقابية أو تشريعية تذكر، وعن يقين بأن ممارسته لحقه أو واجبه، أيا كان المسمى، لن يغير شيئا فى مجريات المشهد المعروف نتائجه سلفا لصالح حزب السلطة الجديد.
لم يراع مخرج انتخابات «الشيوخ» الأخيرة حتى الشكل، وصدر للناخب أن العملية انتهت وحسمت نتائجها قبل أن تبدأ، فاختار هذا الناخب أن يمارس حقه فى «التخلف»، كنوع من أنواع الاعتراض الإيجابى السلمى على ما يجرى. غادر الناخبون المسرح بشكل شبه جماعى بعد أن أدركوا أن مخرج المسرحية يصر على استخدامهم كمتفرجين يتوقف دورهم عند التصفيق من صالة العرض على مشاهد «بايخة» دون أن يكون لهم أى دور حقيقى فى العرض.
لن يستخدم المواطن حقه فى المشاركة إلا إذا اقتنع بأنه صاحب الولاية المُنشئ والمُؤسس لمؤسسات السلطة، يثبتها ويعزلها ويعيد تشكيلها بصوته ورأيه، أما لو استمر الحال على ما هو عليه وظن أهل الحكم أنهم قادرون على استدعائه كمشاهد يملأ مقاعد المسرح، فليس أمام هذا الناخب سوى ممارسة الحق فى «التخلف» كعقاب لمن تجاهل إرادته وتحايل على رأيه، وعليه فنسب المشاركة فى الاستحقاقات المقبلة ستبقى متدنية مهما بالغوا فى تقديم الهدايا الانتخابية أو ضاعفوا من الغرامات المالية.