فى ثورة العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين فى مصر، اجتمعت أسباب التمرد على كبت الحريات والقمع مع تلك الخاصة بالاحتجاج على الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التى هوت إليها معيشة الناس. للثورة جذورها السياسية والاجتماعية. الجذور السياسية هى أكثر ما يحوز انتباه المجتمع السياسى وهو ينعكس نقاشا فى شكل نظام الحكم وتوزيع السلطات والفصل بينها، بل وفى إيلاء الاهتمام الواجب لصون الحريات ولحماية الحقوق المدنية والسياسية. ربما رجع ذلك إلى ما لهذه الحقوق من أهمية، وربما كان أيضا لأسبقيتها فى اهتمامات البشرية بحريتها وبآدميتها وبأن تحكم نفسها وأن تسوس شئونها. هذه الأسبقية بدورها انعكست بحثا ودراسة ثم صياغة فى المواثيق والدساتير والقوانين. أما الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فإن البحث فيها ودراستها لم يتطورا إلا حديثا، ثم إنها تقع فى مجالات علمية بعيدة عن تلك التى يعنى بها أهل القانون والسياسة بمعنييهما التقليديين، وأخيرا فإنها تمس مصالح مادية مترسخة فى بنية الاقتصادات والمجتمعات، وهى لذلك موضوع لتجاذبات بين مدافعين عن مصالح محققة ومتطلعين إلى مصالح مرجوة.
●●●
ماذا فعل دستور 2012 الجارى تعديله فى شأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وما هى التعديلات التى اقترحتها لجنة العشرة على هذه الحقوق؟ الباب الثانى فى دستور 2012 هو عن الحقوق والحريات والفصلان الأول والثانى فيه هما على التوالى عن الحقوق الشخصية، وعن الحقوق المعنوية والسياسية، ثم خصص الفصل الثالث بمواده من الثامنة والخمسين إلى الثالثة والسبعين للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. لم يرد مصطلح الحقوق الثقافية فى الدستور، وعولج الحق فى التعليم، وحرية البحث العلمى، وتعليم اللغة العربية، ومحو الأمية فى هذا الفصل الثالث الذى تناول أيضا الحق فى العمل، وفى الضمان الاجتماعى، وفى السكن وغيرها. جدد دستور 2012 تجديدا محمودا إذ أفرد فصلا رابعا من الباب الثانى لضمانات حماية الحقوق والحريات، ولكنها كلها ضمانات، أيا كانت فاعليتها، للحقوق الشخصية ولما سمى بالحقوق المعنوية والسياسية. ولم تذكر هذه الضمانات الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بأى شكل من الأشكال. بعبارة أخرى، اكتفى دستور 2012 بسرد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وربما كان هذا مفهوما لأن القائمين عليه فسروا الثورة المصرية تفسيرا غير اجتماعى، بل إنهم أسقطوا على الثورة تفسيرا اختلطت فيه السياسة بالدين فذهب اهتمامهم إلى تديين الدستور من أجل اكتساب السلطة السياسية والحفاظ عليها. فماذا فعلت لجنة العشرة بعد أن سقط التفسير الدينى السياسى للثورة؟ المفترض هو أنه وقد أسقط المصريون هذا التفسير، فإن التفسير الاجتماعى السياسى قد عاد إلى الواجهة. لجنة العشرة عدلت فى صياغة أربع من المواد الست عشرة للفصل الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية ولم تضف أى نوع من الضمانات للممارسة الفعلية لهذه الحقوق، أى أن التعديلات المقترحة اكتفت هى الأخرى بسرد الحقوق. على الرغم من الصعوبات المذكورة أعلاه بشأن تفعيل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فإن ثمة مصادر يمكن الرجوع إليها فى هذا الشأن. أول هذه المصادر هو أعمال لجنة الأمم المتحدة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتعليقاتها العامة، وبشكل خاص تعليقها العام حول طبيعة التزام الدولة بشأن هذه الحقوق، والذى ينص على التحقيق التدريجى لكامل هذه الحقوق فى حدود الموارد المتاحة للدولة، ولكن مع البدء فورا فى اتخاذ خطوات نحو تحقيقها. هذا نص مرن وواقعى لا يمكن لأحد أن يزعم أن فيه غلوا، هى أنه يضيف إلى السرد التزاما صريحا بالعمل على أن يمارس الناس حقوقهم. تفسير مهم فى نفس التعليق العام هو الإشارة إلى إمكانية توفير حق التقاضى بشأن تفعيل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
●●●
المصدر الثانى هو القانون الدستورى المقارن للبلدان النامية التى تعانى، مثل مصر، من الفقر، والتخلف، والتفاوت الفج فى الثروات والدخول. فى شأن الحق فى العمل، وفى التعليم، وفى المعونة الاجتماعية يقتبس دستور الهند من العهد الدولى فينص على أن الدولة، وفى حدود قدرتها الاقتصادية، تخصص الموارد الكفيلة بالتمتع بكل من هذه الحقوق. الجديد فى الدستور الهندى هو نصه على أن سياسة الدولة يجب أن تكفل توزيعا لملكية الموارد المادية للمجتمع وللسيطرة عليها يحقق الصالح المشترك للجماعة. أما الأكثر أهمية فهو أن المادة الثانية والثلاثين عن سبل تفعيل الحقوق الأساسية تضمن الحق فى اللجوء إلى المحكمة العليا لتفعيل هذه الحقوق، ومنها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وعلى أن للمحكمة أن تصدر القرارات والإجراءات الكفيلة بتفعيل الحقوق الأساسية، بل إن المادة تذهب إلى حد منح البرلمان حق إصدار القوانين التى تنشئ محاكم تمارس فى حدود دوائر اختصاصها الإقليمية الصلاحيات الممنوحة للمحكمة العليا بقتضى المادة نفسها. بعبارة بسيطة، الدستور الهندى يمنح المواطن حق مقاضاة الدولة إن هى لم تمكنه من ممارسة حقوقه الاقتصادية والاجتماعية.
دستور جنوب إفريقيا يخصص فصلا كاملا لوثيقة للحقوق، وهو بدوره يقتبس من أعمال لجنة الأمم المتحدة عندما ينص على أن الدولة تحترم وتحمى وتروِج للحقوق، الواردة فى الوثيقة، بل ويضيف إليها أن الدولة تنفذ هذه الحقوق. بشكل شبيه بالدستور الهندى، ومستفيدا من تفسير التعليق العام المذكور أعلاه، ينص الدستور الجنوب إفريقى فى مادة خاصة بتفعيل الحقوق، السياسية والمدنية منها والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، على الحق فى اللجوء إلى أى محكمة مختصة للادعاء بانتهاك حق مذكور فى الوثيقة أو بتهديده، وعلى أن للمحكمة أن تحكم بمعالجة مناسبة لهذا الانتهاك أو التهديد. ويلفت النظر فى المادة التالية فى هذا الدستور نصها على أنه فى تفسيرها لوثيقة الحقوق كلها، يجب على أى محكمة أن تروِج لقيم المجتمع الديمقراطى المفتوح المستند إلى الكرامة الإنسانية والمساواة والعدالة، وأن على المحكمة أيضا فى تفسيرها للحقوق أن تأخذ فى حسبانها أحكام القانون الدولى. الدستور البرازيلى يكرِس بنيته لإبراز أهمية الحقوق الاجتماعية التى يورد تحت عنوانها الحقوق الاقتصادية والثقافية أيضا. الباب الثانى من الدستور عن الحقوق الأساسية وضماناتها، وهو يخصص الفصل الثانى للحقوق الاجتماعية التى يقدِمها بذلك على الحقوق السياسية التى لا ترد إلا فى الفصل الرابع. الفصل الثانى يشمل ست مواد ولكن المادة السابعة من الدستور تفصِل فى الحقوق فى 34 فقرة تتناول ضمن ما تتناوله بعض شروط العمل وظروفه، والحد الأدنى للأجر، بل وأجر شهر ثالث عشر. الدستور البرازيلى يخصص بابا للضرائب والميزانية، وأهم تجديد فى شأن الحقوق الاجتماعية يرد فى الفصل الثالث من هذا الباب عن ميزانية التعليم والثقافة والرياضة حيث تنص إحدى مواده على أن تخصص الحكومة الاتحادية فى الميزانية السنوية 18 فى المائة، والولايات والبلديات 25 فى المائة، من حصيلة الضرائب للتعليم وتنميته. تحديد نسبة بعينها فى الميزانية لغرض من الأغراض مسألة يمكن مناقشة سلامتها، ولكن المهم هو التجديد وما يكشف عنه هذا الحكم من التزام بتفعيل الحقوق الاجتماعية.
●●●
ألا نستفيد ونحن نصوغ نصوصا دستورية جديدة من اجتهاد البشر فى كل مكان فى شأن تمتعهم الفعلى بحقوقهم فى العيش الكريم وفى الازدهار والتنوع، فى ظل مبدأ لا مراوغة فيه وهو عدم التمييز على أى قاعدة كانت؟ بدلا من الاكتفاء بسرد الحقوق، لماذا لا يبتكر الدستور المصرى المعدَل؟ لماذا لا يلزم الدولة بوضع سياسات كفيلة بتحقيق التقدم فى حل مشكلات مثل الفقر، والأمية، والمرض، والسكن، وبأن تحدد فى بداية كل فترة تشريعية نسبة للتقدم المستهدف؟ لماذا لا يلزم الدستور رئيس الجمهورية بمتابعة تحقيق التقدم المستهدف وبلفت نظر حكومته إن هى قصَرت فى صوغ السياسات الضرورية لبلوغه وفى تنفيذها؟ الثورة هى أيضا تمرد على التقليد وخروج على المألوف.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة