لم يكن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر نبيا معصوما منزها عن الخطأ، كان زعيما وطنيا، أصاب وأخطأ، حاول وعافر ليحقق لوطنه وأمته ما حلم به من كفاية واستقلال وتقدم.
نموذج ناصر ومشروعه، أحرج خلفاءه للدرجة التى دفعتهم إلى أن يمشوا على خطه بـ«أستيكة»، وشعبيته الجارفة دعت خصومه إلى صناعة تاريخ مواز مشوه عن «الستينيات وما أدراك ما الستينيات»، فى محاولة لتشويه الرجل وتأليب الأجيال التى لم تعاصره عليه.
على مدى أكثر من 4 عقود، شكك هؤلاء وهؤلاء فى ناصر وثورته، شككوا فى جماهيريته وشعبيته، حتى استقرت الكثير من المغالطات فى عقول الأجيال الجديدة.
بنظرة سريعة على ما يدونه رواد مواقع التواصل الاجتماعى مع كل ذكرى تخص ناصر، تجد أنهم يتداولون تعبيرات تحمل خاتم الرئيس «المؤمن» أنور السادات الذى انقلب على كل ما أرساه زعيمه، أو «أكليشهات» جرى تعليبها فى معاقل التنظيمات الدينية لتجعل من عبدالناصر جلادا اكتوى بسوطه معظم المصريين.
اللافت أن من شكك فى شعبية ناصر، تناسى أن مشهد جنازته كان استفتاء على مدى حب الناس للرجل الذى انحاز للفقراء ولقضايا وطنه وأمته، فمشهد الملايين التى اكتظت بها شوارع القاهرة والعواصم العربية لتوديعه، والتى تناقلتها وكالات الأنباء العالمية كفيل برد مطاعنهم.
حسم تشييع جنازة عبدالناصر الذى طالما وصفه خصومه فى الداخل والخارج بـ«الطاغية المستبد» أمر شعبيته، واعترفت الصحف التى كانت تهاجمه فى حياته بعظمته ونقلت مشهد الجنازة فى اليوم التالى باعتبارها «الأعظم فى التاريخ».
فى اليوم التالى للجنازة قالت مجلة نيوزويك الأمريكية، إن «العالم لم يشهد جنازة تماثل فى ضخامتها جنازة عبدالناصر، وسط مشاهد من عويل المصريين والعرب عليه بلغت حد التخلى عن الموكب الجنائزى عندما ضغطت الألوف المؤلفة على الموكب فى محاولة لإلقاء نظرة أخيرة على النعش الذى يحمل جثمان بطلهم الراحل»، مضيفة: «إن جنازات كيندى وستالين وكمال أتاتورك تبدو كصور فوتوغرافية إذا ما قورنت بجنازة عبدالناصر.. لقد أحس العرب أنهم فقدوا الأب والحامى لهم».
ووصفت صحيفة «الجارديان» البريطانية فى تقرير أعده كل من هارولد جاكسون وديفيد هيرست، الجنازة بأنها: «الجنازة الرسمية المذهلة والأكثر إثارة فى العصر الحديث، وأن ملايين المصريين المتواضعين خرجوا لتوديع زعيمهم الذى أحبوه طوال ١٨ عاما، إلى جوار حشود من القادة وزعماء العالم».
أما «التايمز» فقالت: إذا كانت عظمة الرجال تقاس بقدر الفراغ الذى يتركونه بعد مماتهم، فإن ناصر يعتبر بحق أعظم الرجال.. كان تأثيره كبيرا، يمد ظلاله من الشرق الأوسط على قارات المنطقة، واحتل مكانة كبيرة.
وجاء فى «الديلى تليجراف»: صحيح أن ناصر وحده كان يستطيع أن يقنع كل العرب بالتوصل إلى سلام دائم مع إسرائيل، ولكنه أيضا كان الوحيد القادر على أن يجعلهم يحاربون إلى آخر المدى.
ووصفت «الواشنطن بوست» ناصر بـ«صاحب الموقف السياسى البارز الذى اختطفه الموت وهو يحاول حقن الدماء فى الأردن.. كان ناصر دائما فى القمة وقد سجل له التاريخ مآثر كثيرة».
الكاتب والمؤرخ والأديب الفرنسى «جان لاكوتير» وصف أحداث تشييع جنازة جمال فى كتابه «ناصر» بقوله: «إن هذه الجموع الغفيرة فى تدافعها الهائل نحو الجثمان إلى مثواه الأخير لم تكن تشارك فى تشييع الجثمان، لكنها كانت فى الحقيقة تسعى فى تدفقها المتلاطم للاتصال بعبدالناصر الذى كانت صورته هى التجسيد المطلق لكينونتها ذاتها، لقد قفلت الآن الدائرة، ولكن ماذا تحوى فى داخلها؟ 23 يوليو.. باندونج.. السويس.. السد العالى.. دمشق.. الجزائر.. قوانين 1961، إن كل ذلك قد أصبح الآن تاريخا، لقد مضت فترة الانتقال من عهد الملك الدمية إلى الجمهورية والعروبة والاشتراكية، لكن ما هو باق هو صورة عبدالناصر وما أصبحت ترمز إليه من الإحساس بالكرامة وروح التحديث والشعور بالأهمية الدولية».
بعد الوفاة بأيام قال موشى ديان وزير الدفاع الإسرائيلى: «كان عبدالناصر ألد أعدائنا وأكثرهم خطورة على دولتنا ووفاته عيد لكل يهودى فى العالم»، وصرح رئيس أركانه حاييم بارليف بأنه «بوفاة ناصر أصبح المستقبل مشرقا أمام إسرائيل، وعاد العرب فرقاء كما كانوا وسيظلون باختفاء شخصيته الكاريزماتية».
اعترف خصوم عبدالناصر بعظمة القائد المهزوم، فيما لا يزال بعض المصريين ينبشون قبر الرجل ويحملونه أخطاء خلفائه.