يحار المرء بماذا يجيب إذا سئل عن حالة الفكر السياسى فى مصر الآن. إذ هل هناك فكر سياسى أصلا فى مصر، يمكن أن يوصف ويحلل؟
إنى لا أقصد فكرا سياسيا مبتكرا، يضيف به المصريون إلى حصيلة الفكر السياسى فى العالم، (فالمصريون متوقفون عن هذا الابتكار والتجديد منذ وقت طويل)، ولكنى أقصد شيئا أكثر تواضعا بكثير: مجرد الجدل حول الأفكار السياسية المطروحة فى العالم.
أين نبحث عن الفكر السياسى فى مصر؟ فى الأحزاب وصحفها؟ أم فى المنشور من كتب المحللين السياسيين وأساتذة الجامعات؟ سواء نظرنا إلى هذه أو تلك نجد الحصيلة قليلة للغاية ومن الصعب وصفها ب«الفكر السياسى».
الأحزاب فى مصر كثيرة، بل أكثر من اللازم بكثير. ولكن قليلا منها ما يمكن أن يزعم بأنه «صاحب فكر سياسى» على الرغم من أن قانون الأحزاب فى مصر يشترط للموافقة على طلب تكوين حزب، أن تكون للحزب أفكار متميزة عن أفكار غيره.
قلنا خذ مثلا ثلاثة من أحزاب (أو تكتلات) المعارضة المصرية، يمكن اعتبارها أقرب الأحزاب أو التكتلات فى مصر إلى احتمال امتلاك أو تقديم فكر سياسى متميز عن غيرها، حزب التجمع، والحزب الناصرى، وجماعة الإخوان المسلمين، لنرى إلى أى حد يقدم أى منها للناس فكرا سياسيا متميزا حقا، ويساير ما يجرى فى العالم من تطورات.
حزب التجمع ارتبط فى الأذهان، منذ انشائه قبل ثلث قرن، بالماركسية، على أساس المذهب الذى يدين به (أو كان يدين به) مؤسسيه، وتأكيده على فكرة الصراع الطبقى. ولكن حزب التجمع قرر منذ انشائه أن يفتح أبوابه لبعض الوطنيين من غير الماركسيين، من المؤمنين بالاستقلال الوطنى والعلمانية، والمتعاطفين مع الدعوة إلى العدالة الاجتماعية. تمتع الحزب طوال الخمسة عشر عاما الأولى من عمره، أى حتى نهاية الثمانينيات، بدرجة لا يستهان بها من الشعبية، وتمتعت خلالها جريدته (الأهالى) باحترام وتقدير واسعى النطاق بسبب مواقفها الوطنية، وتعبيرها عن مصالح الطبقات الأقل حظا من المجتمع، فضلا عن مستواها المهنى العالى، وتمتع كثير من كتابها بدرجة عالية من الموهبة، فضلا عن حساسيتهم الفائقة بما يفكر فيه الناس ويشعرون به. (هل تذكرون عواميد فيليب جلاب وصلاح عيسى؟ وكاريكاتير بهجت عثمان؟ ومقالات عبدالعظيم أنيس... إلخ؟).
عندما اضطر الحزب إلى تخفيف لهجة جريدة الأسبوعية، انصياعا لضغوط من الحكومة، وأنشأ إلى جانب الجريدة الأسبوعية مجلة شهرية (اليسار)، لعبت هذه المجلة دورا مشرفا للغاية فى تحريك الفكر السياسى فى مصر، بقيادة مثقف وطنى هو حسين عبدالرازق، وتألقت المجلة برغم ما كانت تواجهه من صعوبات مالية، وطبيعة المجلة الشهرية، بكتابها من الماركسيين وغيرهم، وبكاريكاتير حجازى البديع، مما يجعل أعدادها القديمة الآن تثير الدهشة بمقارنة ما كانت تنشره من مواد ومناقشات دسمة بما يجرى نشره الآن فى أى صحيفة أو مجلة مصرية، شهرية أو أسبوعية أو يومية.
أصاب الحزب ضعف شديد فى العشرين سنة التالية، لابد أن كان من أسبابه سقوط الاتحاد السوفييتى فى مطلع التسعينيات، وما أصاب الاشتراكية فى العالم من تصدع، ولكن لا شك أيضا أن من أسباب تصدع حزب التجمع، والتدهور الشديد الذى أصاب جريدته الأسبوعية (ناهيك عن إغلاق مجلة اليسار) الضغوط الشديدة التى تعرض لها من نظام الحكم إلى أن انتهت بمهادنة تامة بين الحزب والحكومة.
لم يكن للناصريين فكر سياسى واضح المعالم مثلما كان للماركسيين المصريين. فعبدالناصر لم يكن على أى حال مفكرا بمقدار ما كان سياسيا عمليا. لاشك أن عبدالناصر قد أحدث انقلابا فى الواقع السياسى والاجتماعى المصرى، طوال عقدين كاملين (الخمسينيات والستينيات)، واكتسب جماهير غفيرة من الأنصار فى مصر والعالم العربى كله، ولايزال كثير منهم يعتقدون أن ما فعله عبدالناصر وما دعا إليه مازال هو أصلح منهج للعمل السياسى، سواء تعلق الأمر بالسياسة الاقتصادية أو الاجتماعية أو العلاقات العربية أو السياسة الخارجية.
ليس من الممكن إنكار مازالت تتمتع به «الناصرية» من شعبية كبيرة، فى داخل مصر وبقية الدول العربية، ولكنى أزعم أن الناصرية الآن، فى مصر كما فى العالم العربى ككل، أقرب إلى أن تكون حنينا لماض جميل منها إلى الموقف الفكرى. فى كل عام تحتفل الجريدة الناصرية فى مصر (العربى) بذكرى ميلاد عبدالناصر وذكرى وفاته (وكذلك تفعل جريدة الكرامة التى تصدر عن حزب ناصرى آخر تحت التأسيس)، ومازال اسم عبدالناصر تحيط به هالة من التبجيل والاحترام لا يكاد يحظى بها أى زعيم عربى آخر قديم أو حديث.
ولكن الحقيقة التى يبدو أن الناصريين مصرون على تجاهلها، هى أنه قد مضى أكثر من أربعين عاما على وفاة عبدالناصر، وهى فترة ليست قصيرة بالمرة فى عمر العالم أو أى بلد من البلاد، خاصة أن معدل التغيير فى أحوال العالم يزداد بسرعة كلما مرّ الزمن، إنه من المهم أن نتذكر أنه خلال ال43 عاما التى انقضت على هزيمة عبدالناصر العسكرية فى 1967، شهد العالم نمو سياسة الوفاق بين المعسكرين الرأسمالى والاشتراكى (بل لعل هذا الوفاق هو نفسه الذى أدى إلى هزيمة عبدالناصر أصلا)، ثم عودة الحرب الباردة من جديد، ثم سقوط المعسكر الاشتراكى كله وانهيار الاتحاد السوفييتى، وانفتاح روسيا على العالم، وتحول الصين إلى نظام السوق، ونمو ظاهرة العولمة، ونمو ظاهرة المجتمع الاستهلاكى، وظهور ثورة المعلومات والاتصالات، وإعلان الحرب على ما يسمى ب«الإرهاب» بعد وقوع حادثة 11 سبتمبر 2001، واتضاح تدهور المركز النسبى للاقتصاد الأمريكى فى العالم، والإعلان ثم التراجع عما يسمى بنظام «الشرق الأوسطى الجديد»، والتدهور الشديد الذى أصاب القومية العربية، واشتداد الصف الإسرائيلى فى معاملة الفلسطينيين، وبزوغ قوى اقتصادية جديدة فى آسيا... الخ.
هل يجوز فى ظل كل هذه التطورات البالغة الأهمية ان نتحدث عن الناصرية وكأننا مازلنا فى سنة 1970، عندما توفى جمال عبدالناصر، أو فى 1966 أى قبيل هزيمته العسكرية؟ نعم كان عبدالناصر وطنيا عظيما، ومجددا لاشك فيه فى السياسة المصرية والعربية، ولكن هل يجوز أن نستمر فى ترديد كلامه وشعاراته، وكأن شيئا لم يحدث منذ ذلك الوقت؟
نعم، التبعية السياسية والاقتصادية شىء كريه ومرفوض دائما، ولكن هل التبعية فى سنة 2010 تعنى نفس ما كانت تعنيه فى 1970؟ وهل طريقة مواجهتها هى نفس طريقة مواجهة عبدالناصر لها؟ ألا يحتاج الأمر إلى مزيد من الفكر والتحليل السياسى والاقتصادى لما جرى ويجرى فى العالم؟
أما الإخوان المسلمون فهم ليسوا أقل اعتمادا على إثارة عواطف الناس من الناصريين، بل العكس هو الصحيح. ان رفع شعار «الإسلام هو الحل» ينجح دائما فى إثارة عواطف المصريين أكثر من أى شعار آخر، ولكن هل يصلح هذا لشعار حقا كبديل للفكر السياسى؟ بل ألا يحتاج هذا الشعار نفسه إلى تجديد مستمر وإعادة تفسيره مع تغير الظروف والأحوال؟ نعم، الإسلام ثابت وسيظل ثابتا على مرّ العصور، ولكن هل يجوز أن تكون الحلول المستمدة منه ثابتة أيضا مهما تغيرت العصور؟ أليس من الواجب كلما رفع شعار «الإسلام هو الحل»، أن يقدم تفسيرا لهذا الشعار ينطوى على تطبيقات ملائمة للظروف والأحوال التى يرفع فيها الشعار، ويواجه بوضوح ما جرى فى العالم من تطورات وما يجرى فيه من أحداث؟
نغم هناك فقر لاشك فيه فى الفكر السياسى للمعارضة المصرية فى الوقت الحاضر، ولكنى أعود فأقول: هل هناك أى شىء غريب فى هذا الأمر؟ هل يمكن أن تطالب أى شخص بشحذ فكره وابتكار أى فكرة جديدة وهو فاقد لحرية الكلام؟ هل يمكن حقا أن يفكر المرء وهو مكمم الفم؟ ألا يحتاج الابداع، بل ومجرد التفكير إلى وجود القدرة على التعبير ابتداء؟ أليس حالنا، طوال الثلاثين عاما الماضية على الأقل، كحال التلميذ الخائف الذى كلما فتح فمه بالكلام انهال عليه المدرس بالسب والضرب؟
هل ينتظر من هذا التلميذ أن يفعل فى النهاية أكثر من أن يردد ما سمعه من قبل؟ وهل يمكن أن نتوقع منه أى ممارسة لملكة التفكير المستقل؟
إنى أزعم أن حالة الفكر السياسى للمعارضة المصرية لم تكن دائما بهذه الدرجة من السوء.