كنت، ومازلت، أحد القلائل الذين تمسكوا بتفاؤلهم بمستقبل هذا الوطن. يحدث أحيانا، بل كثيرا، ما يخيب الآمال التى عشت السنوات الأخيرة أصنعها وأراكمها، لكنها خيبات أمل سرعان ما تخبو ليحل محلها ثقة متجددة فى إمكانات ثورية لم تتفجر بعد.
•••
كنت متفائلا، وما زلت، بمستقبل جماعة الإخوان المسلمين، كان مصدر تفاؤلى ثقتى الكبيرة فى قدرة السياسة على تطويع التشدد الدينى وإخضاعه لقواعدها، وشكوكى العديدة فى قدرة التشدد الدينى على إخضاع السياسة لأحكامه. كان الظن أن اندماج الإخوان فى العمل السياسى المعلن، وهو أحد إنجازات هذه الثورة، سوف يفك إسار السرية التى أحاطوا أنفسهم ونشاطاتهم بها، ويحطم الكثير من أغلال الشك فى نوايا القوى المدنية واللاعبين الآخرين فى حلبة السياسة. كان الظن أيضا أن قادة الإخوان، وقد صاروا قادة سياسيين ومسئولين عن مصير أمة متعددة الأهواء والخبرات سوف يستخدمون قوة التنظيم ومبادئ الطاعة والانضباط ليقودوا جماهير جماعتهم على طريق الثورة نحو مستقبل يسود فيه التسامح وتعلو قيمة العلم ويهيمن القانون.
•••
كان الظن أن القادة السياسيين كافة ونخب تصدرت الجموع سيضعون نصب أعينهم أهداف الثورة. لن يحيدوا عنها. لن يمتطوها للوصول إلى مناصب أو مواقع سلطة ثم يرفسوها بعيدا. أعترف بألم أن كثيرين من هؤلاء القادة خيبوا أملى عندما تقدموا بخطط وبرامج رئاسية أو حزبية لا تختلف فى الجوهر، وأحيانا فى الشكل عن خطط وبرامج كان يمكن أن تقدم فى أزمنة ما قبل الثورة. غاب جوهر الثورة ومبادئها عن العديد من خطط القادة والأحزاب والجماعات التى قفزت إلى مواقع الصدارة فى الميادين واعتلت المنصات. غاب الجوهر وغابت المبادئ وإن استمر استخدام الشعارات الثورية وسيلة للحشد وكسب الجماهير. ولم يشذ قادة الإخوان وغيرهم من قادة التيارات الإسلامية عن الاتجاه العام الذى سلكته غالبية القادة السياسيين.
•••
بحثنا، وبحث الباحثون فى مراكز البحث فى الدول الكبرى، عن مفاهيم الثورة وروحها ومبادئها فى برامج الحزب الذى تصدر الأحزاب الدينية، فلم نجدها بل ولم نجد الدين مساهما فيها بالدرجة التى تستحق الجهد والتضحيات الهائلة التى بذلت باسمه ومن أجله ويصعب إنكارها. كان واضحا أن الحزب الدينى اعتمد على ما غرسه فى أجياله من نظريات عبر العقود أكثر مما اعتمد على ما فجرته ميادين مصر من رغبة فى التغيير نحو الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة والحقوق الإنسانية. لم تكن الثورة بالنسبة للحزب أكثر من شعار مفيد، وكان بالفعل مفيدا للغاية عندما احتاج الأمر إلى استقطاب شعبى فى انتخابات الرئاسة. خاب عندى شىء من الأمل فى السلوك السياسى لقيادات من الإخوان كما خاب شىء منه فى قيادات سياسية أخرى. ورغم ذلك كان الأمل يتجدد دائما. أمل جديد فى أن وصول الإخوان إلى أعلى مناصب الدولة فى مصر، وتمكنهم من تشكيل حكومة متعاطفة مع توجهات الجماعة، إن لم تكن تابعة لها، سوف يفرض على قيادات الجماعة وحزبها السياسى، والرئاسة نفسها، العودة إلى الثورة واشتقاق برامج من جوهرها ومبادئها. استند الأمل عندى إلى أن مصلحة الجماعة والرئيس هى فى توسيع القاعدة الشعبية وعدم الاكتفاء بالقاعدة الضيقة حتى وإن كانت منضبطة ومطيعة.
مرة أخرى يصاب الأمل بالخيبة وبخاصة فى الممارسات السياسية للسلطة الحاكمة، سواء على مستوى تسيير شئون الحكم أو تنفيذ الوعود بإدخال إصلاحات جوهرية فى قطاعات حيوية كالأمن الداخلى والأمن الخارجى والاقتصاد الوطنى، أو على مستويات أقل جدا كتلك التى تمس حياة المواطنين اليومية كالمواصلات والنظافة والنظام العام وحرمات الناس رجالا ونساء فى الشارع. كلها بدون استثناء، ممارسات لم تختلف جذريا عن ممارسات كانت سائدة قبل الثورة. وبتراكمها وتفاقمها نشبت الثورة.
•••
لا أخفى أننى كنت أحد الذين تصوروا على امتداد العقود الأخيرة، أن جماعة الإخوان الساعية بحرص ودأب إلى تولى شئون الحكم، قد استعدت لتحقيق هذا الهدف بصفوف تراصت من الخبراء والعلماء وأكفأ العقول فى جميع المجالات. كنت أحد الذين تصوروا أن الجماعة قد استعدت لليوم المشهود بمنهج تعليمى يجمع أفضل ما استخدمه الكوريون وما يخططه الأمريكيون وما ينفذه الصينيون وما يحلم به المصريون، كان الظن أو الأمل أن الإخوان أتيحت لهم فرصة طويلة من الزمن ليضعوا المنهج الأمثل الذى يحقق للوطن قفزة كبرى نحو المعاصرة وقفزة تليها أو ترافقها نحو بناء منظومة قيم وأخلاق متميزة.
كانت خيبة أمل كبيرة حين عرفت مثل العديدين من أبناء هذا الشعب، أن منهجا كاملا وشاملا كالذى تصورناه لم يكن موجودا، وأن منهجا مختلفا فى السياسة الخارجية عما عهدناه فى عهود مبارك لم يكن موجودا، وأن منهجا جاهزا وكفؤا لتحقيق العدالة الاجتماعية لم يكن موجودا. تعددت خيبات الأمل حتى تراكمت وبدأت تضغط فى اتجاهات شتى. ضغطت فى اتجاه نحو الأعلى، أى على الحكومة وأجهزة الأمن ورئيس الدولة، فتضخمت الأخطاء وارتبكت عملية صنع السياسة والقرار. وضغطت فى اتجاه نحو الأدنى، حين لجأت الحكومة أو الحزب أو الجماعة إلى استخدام أساليب قمع وقهر وإقصاء وحشد إعلامى اتضح أن القائمين عليه إما غير مؤهلين أو غير مقتنعين أو مدفوعين. لم يكن غريبا، والحال على هذا الشكل، أن تتفاقم علاقات الشك وعدم الثقة بين الحكم والشعب وأن تتعرض مكانة رئاسة الدولة للانحسار والاساءة والتشويه وأن يضعف استعداد الشعب لدفع ثمن إصلاحات اقتصادية، بدليل موقفه من مسألة قرض الصندوق الدولى. كذلك ضغطت خيبات الأمل فى اتجاهات أفقية، رأينا الحال الذى وصلت إليه العلاقات بين التيارات الدينية وغيرها من التيارات السياسية فى ساحات وضع الدستور وبناء التحالفات وفضها وفى أجهزة الإعلام وفى الشارع. هنا لا أعفى التيارات السياسية المدنية من مسئوليتها، فكثير منها كان قد تخلى بالفعل عن جوهر الثورة ومبادئها وأكثرها لم يقدم، حتى الآن، برنامجا أو منهجا يختلف جوهريا عما كان يتحدث فيه أو يدعو إليه قبل يناير 2011.
•••
هكذا كشفت الأزمة الراهنة عن عمق خيبات الأمل واتساعها لدى جميع الأطراف، وأعتقد أن أهم ما أفرزته هذه الخيبات المتعاقبة هو عودة عامة الناس إلى البحث عن الثورة وجوهرها ومبادئها وأحكامها، وهذا فى حد ذاته يمثل لى أملا جديدا ويدعم تفاؤلى بالمستقبل. آن أوان الاعتراف بأننا لم نكن نعرف حقيقة القوى السياسية المصرية قبل الثورة وتفاصيل خريطتها. بالغنا فى الترويج لأساطير حول بعضها أو انتظار الخير من ورائها، وأهملنا أو بالغنا فى تقدير قيمة مؤسسات مصرية عتيدة، كان الظن أنها وحدها قادرة على أن تكون درعا تحمى الوطن أفرادا وأرضا وثروات. كان يمكن أن نعيش فى أوهام كثيرة عقودا عديدة قادمة لو لم نستيقظ ذات يوم فى يناير على ثورة لها جوهر ومبادئ فانكشف المستور، معظمه وليس كله. ثم جربنا ما عرض علينا. الآن نقرر أننا لم نعد نقبل أو نقتنع بسياسات واهنة وأفكار عتيقة وعقول غير واعية وقيادات غير مدربة وتجارب فى الحكم غير ناضجة وخلافات سياسية تفوح منها رائحة فساد السلطة وبريقها.
•••
لم يكن هناك بد، والأمور على هذا النحو، من رفض الإعلان الدستورى ورفض كل ما سيأتى بعده إن جاء فى نفس السياق السياسى وبنفس المستوى من تواضع الإعداد والإخراج، وفى ظل منظومة من خيبات الأمل المتعاقبة.