يوم الخميس الماضى قال الدكتور مصطفى مدبولى، رئيس مجلس الوزراء، إنه «لا تقييد لحركة الدولار، وملتزمون بسعر مرن وبلاش نتخض لو لقينا زيادات والسوق عرض وطلب». مدبولى كان يتحدث خلال الاحتفال بتشغيل وإطلاق الرحلة الأولى من خط الرورو المصرى الإيطالى ورفع العلم على السفينة وادى العريش.
وقال مدبولى أيضا: «أهم شىء أنه لا يوجد تأخيرات لدينا، هناك عرض وطلب ويتم صرف مستلزمات الصناعة والتجارة».
كلام مدبولى منطقى لكن يحتاج بجانبه شرطا جوهريا وهو أن يكون لدينا تشجيع حقيقى للصادرات والاستثمارات لأنه من دون ذلك فلن يكون هناك لا عرض ولا طلب ولا مرونة سواء للدولار أو لغيره من السلع.
أظن أننا ينبغى ألا نقلق إذا تحرك سعر الدولار قليلا صعودا أو هبوطا.
طبعا البعض سوف يعلق هنا ويسألنى ساخرا: ومنذ متى يهبط سعر أى سرعة فى مصر، خصوصا إذا كانت هذه السلعة هى الدولار؟!!
لكن قد يسأل البعض الآخر بجدية: ولماذا ينبغى ألا نقلق إذا ارتفع الدولار قليلا وبصورة مرنة وتدريجية؟!
الإجابة ببساطة لأننا جربنا الخيار الثانى وهو تثبيت سعر الدولار ودفعنا ثمنا غاليا. وبالأحرى هو لم يكن تثبيتا بقدر ما كان تقديسا.
كان هناك اعتقاد خاطئ تماما لدى بعض المسئولين بأن ثبات سعر الدولار هو نوع من الكرامة والعزة الوطنية وقد سمعت هذا التعبير من مسئول مصرى كبير يقر فيه بالخطأ الكبير من تثبيت سعر الدولار لفترة كبيرة.
ما حدث وقتها أننا ثبتنا سعر الدولار عند 15 جنيها تقريبا بعد قرار صحيح بتعويم جزئى أو مدار فى 3 نوفمبر 2016.
وظل هذا السعر جامدا لسنوات ثم بعد وباء كورونا أوائل ٢٠٢٠ ثم اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية فى فبراير ٢٠٢٢ بدأ الدولار يقفز قفزات جنونية.
جربنا رفع سعر الدولار إلى أقل من 31 جنيها، لكن المشكلة أن الموارد الدولارية لم تكن موجودة لأسباب طويلة منها المضاربة وتخبط القرارات الاقتصادية، خصوصا فى الاعتماد بصورة أساسية على «الأموال الساخنة».
وبسبب كل ذلك تراجعت تحويلات المصريين فى الخارج بصورة كبيرة من ٣٢ مليار دولار إلى أقل من عشرين مليار دولار وكانت قمة التراجع أن سعر
الدولار تجاوز مستوى الـ 70 جنيها، بالطبع هناك فرق كبير بين المرونة المحسوبة والجمود التام والمغامرة المنفلتة.
لا يمكن إطلاقا أن نسمح بالعرض والطلب للدولار إلا إذا كنا نضمن وجود تدفق دولارى معقول يكفى على الأقل الاحتياجات الأساسية.
وبالتالى إذا كنا نعارض تقديس سعر الدولار الثابت لأنه خطر شديد فنعارض أيضا ترك الدولار للعرض والطلب الكامل لأنه وفى ظل عدم ضمان التدفقات الدولارية ýفسيؤدى ذلك إلى قفزة فى المجهول لن يستفيد منها إلا المضاربون والمراهنون على انهيار الاقتصاد المصرى.
الفكرة الأساسية هنا أن تكون هناك مرونة محسوبة فى سعر الدولار فإذا تجاوز الخمسين جنيها أو حتى وصل إلى حاجز 55 جنيها فلا توجد مشكلة كبرى طالما أن التدفقات الأساسية مستمرة، وأقصد بها تحويلات المصريين فى الخارج، وعائدات السياحة وعائدات قناة السويس، والأخيرة تأثرت كثيرا بعد بدء العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة فى أكتوبر قبل الماضى.
وحتى لا يفهم كلامى خطأ فإن السماح بمرونة الدولار النسبية هدفها الأساسى ألا نعود إلى مرحلة الدولار الذى يساوى 70 جنيها أو أكثر، لأن زيادة الدولار جنيها أو اثنين أو حتى ثلاثة فى فترات زمنية طويلة أفضل مليون مرة من ثباته عند سعر معين ثم فجأة يستيقظ المصريون فجأة ليجدوا السعر وقد ارتفع بنسبة 20 أو 30 جنيها مثلا فتزيد أسعار السلع وتتآكل مدخرات المصريين بنفس النسبة.
أيضا ومرة أخرى وأخيرة وحتى لا يفهم كلامى بصورة خاطئة فإن الشرط الأساسى لمرونة سعر الصرف هو أن يكون لدينا صادرات جيدة واستثمارات أجنبية أو محلية طالما أنها تولد عملات أجنبية. من دون ذلك فإننا نكون كمن ينفخ فى قربة مقطوعة.
ولكى تزيد الصادرات والاستثمارات فمن الضرورى أن تكون هناك سياسة واضحة تشجع على ذلك بصورة عملية أهمها تذليل عقبات الروتين القاتل وتعديل التشريعات التى تعرقل الاستثمارات.
الدولة ومن أصغر مسئول ومرورا بالوزراء ورئيس الوزراء ونهاية برئيس الجمهورية يتحدثون بصورة طيبة دائما عن ضرورة دعم الصادرات والوصول بها إلى مستوى مائة مليار دولار بدلا من خمسين مليار دولار الآن، بل إن رئيس الوزراء تحدث فى دمياط قبل يومين عن حلم الوصول إلى ١٤٠ مليار دولار صادرات.
كل يوم يتحدث المسئولون عن تشجيع الاستثمارات سواء المحلية أو الأجنبية، لكن على أرض الواقع فنحن ما نزال نحتاج إلى خطوات متعددة لأن عددا كبيرا من المستثمرين، خصوصا فى القطاع الخاص المصرى، لديهم مشاكل كثيرة.
أخيرا جيد أن يفتتح دكتور مدبولى خط الرورو بين مصر وإيطاليا، وجيد أن نستكمل كل متطلبات دعم الصادرات خصوصا البنية التحتية، والأكثر جودة أن يتم تطبيق كل ذلك على الأرض فإذا نجحنا فى زيادة الصادرات والاستثمارات فوقتها لن نقلق إطلاقا على موقف الجنيه لأن الدولار سوف يتوافر تلقائيا، لكن من دون ذلك فإن القلق مبرر جدا.
علينا أن نسعى لحل جذور المشاكل وليس فروعها.