تمهيد: «7 أكتوبر» ــ من المقاومة إلى شق مجرى دولى جديد
صدقت إشارة «جوتيريش» سكرتير عام الأمم المتحدة لضرورة فهم حركية المقاومة الفلسطينية فى 7 أكتوبر 2023 كرد فعل لتراكمات الممارسات الإسرائيلية الإرهابية، الخارجة على القانون الدولى، طوال عقود سابقة.
أما عن تواصل فعل المقاومة الفلسطينية بعد 7 أكتوبر، دون تمكن الجيش الإسرائيلى منها، برغم الدعم اللانهائى الذى يلقاه من حلفائه، فقد صار دالة على قدر ارتقاءات المقاومة، والتى تخطت الجودة المعرفية والتخطيطية إلى جودة الإنسانيات، طبقا لشهادة الأسرى الإسرائيليين المحررين.
وفى مقابل نجاحات المقاومة المشروعة (باعتبارها مقاومة للاحتلال) تتواصل العنصرية الإسرائيلية الممنهجة (والمسلحة) لإبادة السكان، ولتدمير الوجودية الفلسطينية لغزة، كدالة عظمى فاضحة لبربرية إسرائيل وحلفائها، ولاستهانتهم بالقانون الدولى.
فى هذا السياق، أدى مسار «7 أكتوبر» إلى شق مجرى دولى من الفهم، والاعتراض، والتصدى، ليس فقط بخصوص إدانة إسرائيل وحلفائها، وإنما أيضا بشأن عورات النظام الدولى.
وهكذا، من منصة «7 أكتوبر» بزغ التساؤل بشأن مصير النظام الدولى، بعدما أدت أحداث غزة إلى تعميق حس وإدراكات جماهير المواطن العادى، فى عموم الكرة الأرضية، بما يشوب هذا النظام من حيودات وانحرافات [المقاومة الفلسطينية والنظام الدولى.. أيهما قدر الآخر؟ ــ الشروق ــ 15 ديسمبر 2023].
لذا، بشأن النظام الدولى، يجتهد الطرح الحالى فى النظر إلى التوجهات (والتحولات) الناجمة (أو التى يمكن أن تنجم) نتيجة لأحداث غزة، وفى التناول للكيفية التى يمكن بها ترجمة الرأى العام العالمى إلى دور عملى بشأن حماية القانون الدولى وتحجيم الخروج عليه من إسرائيل وأعوانها.
أولا: «غزة» المقاومة كمنصة لمجابهة عورات النظام الدولى
لقد صار «7 أكتوبر» بمثابة علامة (أو نقطة) دالة على بدء دخول المجتمع الدولى إلى تغير نوعى رئيسى، تغير بحجم «الانقلاب»، بمعنى الانعطاف فى المسار.
عمليا، جاءت نقطة الانعطاف مجسدة لثلاثة أمور إستراتيجية. يتمثل الأمر الأول فى خواء المسارات الدولية والإقليمية من أية إيجابيات بشأن الحق الفلسطينى. أما عن الأمر الثانى فيتمثل فيما جد من تمكن ذاتى للمقاومة الفلسطينية من مجابهة الجيش الإسرائيلى (المدعم بقوى عظمى). من الأمرين معا يأتى ولوج البيئة الدولية إلى الأمر الثالث، والخاص بتحضير الشارع السياسى العالمى لمسار مجابهة عوار النظام الدولى.
ثانيا: متجهات إلى رأى عام عالمى جديد
وهكذا، فى ظل «غزة 7 أكتوبر» كنقطة انعطاف، بزغت متجهات يمكن أن تقود إلى رأى عام عالمى جديد. من أبرز الملامح فى هذا الاتجاه يمكن الإشارة إلى ما يلى:
1ــ العرفان المستحق لشابين بشأن مجابهة الفساد الدولى:
الآن، يمكن التأكيد بأن «عورة» حماية إسرائيل من أحكام القانون الدولى ليست مقطوعة الصلة بحيودات كبرى مهيمنة على العالم، من أبرزها ــ كمثال ــ عمليات تجريم الأسترالى «جوليان أسانج»، والأمريكى «إدوارد سنودن»، بسبب كشفهما، منفردين، لناموس ممارسات انحرافية كبرى فى النظام العالمى السائد.
فى نظر النظام الدولى القائم، وبالذات من منظور الولايات المتحدة، جرى اعتبار الشابين مجرمين كبيرين، مطلوب إخضاعهما للمحاكمة بتهم تصل عقوبتها إلى السجن مدى الحياة.
تمثلت جريمة أسانج فى تأسيسه لمنظمة تتيح لعموم الناس الوثائق التى تحرص الحكومات على سريتها، والتى تحمل شبهة فساد.
وأما عن جريمة سنودن فتتمثل فى اكتشافه (وفضحه) لبرنامج أمريكى للتجسس على جميع الآخرين فى العالم.
من خلال قضيتهما (أسانج وسنودن) تظهر المفارقة الشارحة لوضعية النظام الدولى. تتجسد هذه المفارقة فى معاملتهما كمجرمين كبار فى حق أمريكا (و/أو فى حق النظام الدولى). ذلك بينما كل منهما، قد منح (برغم تجريمهما بواسطة الإدارة الأمريكية) الجائزة السنوية لمنظمة «سام آدمز» الأمريكية، والتى تضم عاملين سابقين من المخابرات الأمريكية، ممن يقدسون «الالتزام بالنزاهة والأخلاق فيما يتعلق بمهام وأعمال الاستخبار».
المسألة إذن هذه المفارقة تنطق بما يعانى منه العالم، من انحراف Skewness فى اتجاه الفساد والتآمر والإرهاب، وهو نفس ما يقاسى منه الفلسطينيون منذ عقود.
وهكذا، من المتوقع لرنين أحداث غزة أن يؤدى بالمجتمع الدولى إلى إعادة التقييم لأوضاعهما (أسانج وسنودن)، ليس كمجرمين وإنما كمقاومين للفساد العالمى، مما يعنى إمكانية فتح مسار التنقيب بشأن ممارسات الحكومات فى التآمر ودعم االفساد.
2ــ القفز من مجرد فهم الصهيونية إلى منصات أخرى أوسع:
من الوارد لما يجرى من تصاعدات فى إدراكات الرأى العام العالمى بشأن الصهيونية وبربرية إسرائيل (وحلفائها) أن تؤدى إلى تحولات جديدة على غرار ما يلى:
أ) زيادة اهتمام الإنسان العادى بالتواصل والتفاعل بخصوص القضايا المجتمعية والدولية.
ب) إعادة تقييم جماهير الناخبين، خاصة فى البلدان الغربية، لقيادات حكوماتهم بعد إدراك أدوارهم فى دعم إبادة سكان غزة، فضلا عن اتباعيتهم للإدارة الأمريكية.
ج) مواجهات مدنية دولية أكثر جدة من أجل حقوق الإنسان عموما، وليس فقط حقوق الفلسطينيين، خاصة بعد تكرار (وحدة) افتضاح ازدواجية معايير النظام الدولى.
ثالثا: من «غزة» إلى المعرفة الإنسانية التغييرية الجديدة
أحداث غزة تمثل كشف وتعرية لما يتسيد فى العالم من «تمادى للفعل المتطرف». هذا التمادى كان قد جرى رصده فى دراسة «مستقبل جديد للثورات: ثورة المفكرين» (الحوار المتمدن ــ 2 فبراير 2013)، والتى ضمنت لاحقا (بنفس العنوان) فى إصدار أكثر استفاضة (المكتبة الأكاديمية ــ 2019). فى إطار هذه الدراسة جرت الإشارة إلى ثلاث قوى (أو متجهات) رئيسية تتضافر مع بعضها من أجل ممارسة واستدامة «التمادى فى الفعل المتطرف»، تماما كما يحدث فى غزة الآن.
تتمثل هذه القوى (أو المتجهات) فى كل من النيوليبرالية (أو الرأسمالية الشرسة)، وسلوكيات التطرف، والنزعات الصهيونية. وباعتبار أن هذه القوى (أو المتجهات) عالمية (و/أو عولمية) الطابع، فإن التصدى لها لابد وأن يكون عالميا.
من هذا الاعتبار، تتأسس «الأهمية التاريخية» لتحولات الرأى العام العالمى إلى دعم الحق الفلسطينى.
ذلك بمعنى أن شعوب العالم تحتاج إلى تضافرية القوى والحركيات، فى اتجاه إنجاز المصالح الإنسانية الأساسية.
فى هذا الخصوص تنشأ حاجة عالمية إلى «معرفة إنسانية تغييرية» جديدة. الهدف الأم لهذه المعرفة يكمن فى التوصل إلى منهجية يكون من شأنها محاصرة قوى الأنانية والتطرف، الأمر الذى يحتاج إلى «نحت» نوعية جديدة من العلاقات بين جماهير المواطن العادى وأدوات الإدارة والحكم.
من أبرز أساسيات هذه المعرفة أن تكون عبر تخصصية، وأن تتشكل من خلال تواصلات بين المعارف (والتحديات) المحلية والعالمية، وكذلك تواصلات بين المعارف الفكرية والأكاديمية من جانب، والمعارف المهنية والسياسية، من جانب آخر. من هنا، يمكن القول، فى الحيز الحالى، أن التوصل إلى هذه المعرفة التغييرية لا يكون ممكنا بغير «جماعية» فى التحضير.
رابعا: دور المحاكمات الشعبية فى حماية الشأن العام الدولى الراهن
ربما تتمثل العورة الأكثر شراسة فى النظام الدولى القائم فى ممارسة القطب الأوحد (وحوارييه) عمليات التعويق لمسارات تطبيق القانون (كما يحدث بشأن أوضاع غزة). وإذا كانت بعض الدول، مثل جنوب أفريقيا، قد تجرأت فى التصدى لهكذا عورة، من خلال محكمة العدل الدولية (وغيرها)، فإن النجاح فى إنجاز أحكام عادلة لا يعنى، فى ظل الملابسات الراهنة للنظام الدولى، إمكانية التنفيذ السلس لهذه الأحكام.
هذا الاعتبار يدفع إلى الحاجة لتحويل «طاقة» الرأى العام العالمى إلى آلية ضاغطة من أجل تطبيق أحكام القانون الدولى.
فى هذا الإطار نجذب الانتباه إلى ما يلى:
1ــ أن استمرارية الرأى العام العالمى فى التعبير التقليدى (بالتظاهرات وغيره) بغير تحقيق مخرجات عملية إيجابية قد يؤدى بكافة الأطراف إلى ممارسات مرضية Pathological، مما يزيد من الشواش العالمى، والذى من الطبيعى أن يكون فى صالح قوى «التمادى فى الفعل المتطرف».
2ــ أن الارتقاء المتدرج لمسار الرأى العام العالمى (مثلا: من التظاهرات إلى المحاكم الشعبية) يكون بمثابة آلية للحفاظ عليه، وتطويره.
3ــ أن من شأن مسار المحاكم الشعبية الضغط لحماية وإنفاذ القرارات التى يمكن أن تصدر دوليا ضد المصالح الإسرائيلية.
4ــ فى هكذا إطار نكرر هنا الإشارة إلى أهمية تحول الرأى العام العالمى إلى منصة لنشأة المحاكم الشعبية بهدف المحاسبة السياسية لكافة المسئولين عن دعم، وتنفيذ، أعمال الإبادة لغزة ولسكانها، من جميع كيانات العالم.
5ــ وبالإضافة إلى دور المحاكم الشعبية فى تحجيم قيادات وكيانات الإرهاب، فمن شأنها أن تكون بيئة داعمة لمحكمة العدل الدولية (ولباقى مسارات الأمم المتحدة فيما يتعلق بأحداث غزة وبالقضية الفلسطينية).
6ــ حتى تكون المحاكم الشعبية ناجزة فإنها تحتاج أن تبنى ــ جماعيا ــ من كيانات مدنية (قانونية وإعلامية وفكرية..إلخ) ، وليس من أفراد.
وبعد،.. يبدو أن القضية الفلسطينية هى بالفعل المنصة العالمية الأنسب لتصحيح عوار النظام الدولى.