الجندول - عاطف معتمد - بوابة الشروق
الأحد 5 يناير 2025 9:24 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الجندول

نشر فى : الثلاثاء 30 يناير 2024 - 7:10 م | آخر تحديث : الثلاثاء 30 يناير 2024 - 7:10 م

زرت فينيسيا قادما من سلوفينيا. ما إن رأيت قوارب الجندول فى مياه البحر الأدرياتى حتى تذكرت عبدالوهاب فى أغنيته الشهيرة.
هيمن موسيقار الأجيال على قصيدة «على محمود طه» فلم يجعلنا نسأل عن الشاعر أو نعرف سبب الأغنية وطقوس إنشادها. ومن تجلى عبقرية اللحن والتوزيع والغناء؛ خطف كل الأضواء وتركنا نردد فقط خلفه «أنا من ضيع فى الأوهام عمره»!
وقع جيلنا فى التباس المعانى وإبهامها بسبب اسم الأغنية. فكلمة «جندول» الإيطالية غير معروفة لدينا وأقرب كلمة لها هى كلمة «جندل» فنتوهم أن الموضوع الذى تردد فيه اسمه كليوباترا وربما وقعت أحداثه فى «جندل» أسوان.
لكن الحقيقة أن شاعرنا «على محمود طه» زار فينيسيا عام 1938 بينما يقام بها الكرنفال الشهير للتنكر فى ليال مضيئة على القنوات النهرية التى تحمل الماء والطمى من جبال الألب.
يستهل الشاعر قصيدته معربا عن إعجابه بما رأت عيناه من مجال فسيح عامر فى هذه المدينة التى تستحق أن يطلق عليها «عروس البحر» وهى أقرب إلى حلم الخيال حيث يتجمع السمار فى ليالى المدينة:
أين من عينى هاتيك المجالى... يا عروس البحر يا حلم الخيال
يربكنا الشاعر حين يفتتح القصيدة باستخدامه كلمة «وادى» واصفا المدينة فيقول:
أين عشاقك سمار الليالى... أين من واديك يا مهد الجمال
اتفق الجغرافيون على أن الوادى مسمى يخص بيئتنا العربية حيث يغيب النهر ولا يظهر سوى موسميا تاركا جوانبه الصخرية الجافة شاهدة عليه. والشاعر لا يقصد الوادى بالمعنى الجغرافى بل المعنى الرومانسى الذى تتخذه المدينة الواقعة بين الجبل والبحر. تتخلل القنوات والأنهر الصغيرة فينيسيا المحاطة بالجبال، وهنا فجأة، وفوق الجسور والقناطر العابرة للقنوات، يتهادى موكب الحسناوات الفاتنات فى الاحتفال الكرنفالى، حتى يشدو واصفا إياهن بـ«الغيد» الجميلات.
موكب الغيد وعيد الكرنفال... وسرى الجندول فى عرض القنال
لا تتهادى الغيد فى مشهد الموكب بمفردهن، فى الخلفية يسرى موكب آخر من «الجندول» فى عرض القنال. وهو زورق قوسى الشكل.
بعد هذه الافتتاحية يخبرنا بوقوعه أسير الجمال حين وقعت عينه أول مرة على فتاته:
بين كأس يتشهى الكرم خمره.. وحبيب يتمنى الكأس ثغره
التقت عينى به أول مره.. فعرفت الحب من أول نظره
فى فينيسيا يصف تلك الفاتنة التى وقع بحبها من أول نظرة فإذا بها تجمع خصال الشرق والغرب:
ذهبى الشعر، شرقى السمات... مرح الأعطاف، حلو اللفتات
كلما قلت له: خذ. قال: هات... يا حبيب الروح يا أنس الحياة
وحتى يندم على ما ضاع من عمره فيشدو قائلا:
أنا من ضيع بالأوهام عمره... نسى التاريخ أو أنسى ذكره
غير يوم لم يعد يذكر غيره.. يوم أن قابلته أول مرة
فتسأل الحسناء صاحبنا «من أين أتيت؟» فيقول: «من مصر..غريب ها هنا» فترد عليه بأنهما غرباء معا، فهى أيضا «لم تكن فينيسيا لها موطنا». ثم يسأل:
أين من فارسوفيا تلك المجالى؟ «فارسوفيا» هى ذاتها مدينة «وارسو» عاصمة بولندا حسب النطق القديم لها. ثم لماذا أتى الشاعر على ذكر هذه المدينة وهى بعيدة عن فينيسيا تماما؟ هل كانت فاتنته ــ شقراء الشعر شرقية السمات ــ بولندية من عاصمة بلادها فارسوفيا (وارسو)؟ من هنا يأخذنا الشاعر إلى مصر فيسأل عن جمال بلاده ــ وهو فى سكرة فينيسيا ــ متذكرا الأهرامات (التى كانت تسمى قبل مائة سنة «الهرمان» فقط) ويسأل أين ماء النيل أين الضفتان.
قلت والنشوة تسرى فى لسانى... هاجت الذكرى فأين الهرمان
أين وادى السحر صداح المغانى....أين ماء النيل أين الضفتان
آه لو كنت معى نختال عبره... بشراع تسبح الأنجم إثره
حيث يروى الموج فى أرخم نبره.....حلم ليل من ليالى كليوبتره
يدعو محبوبته إلى مصر متمنيا أن يختالا معا عبر أرضها بين أمواج وأشرعة ونجوم وخلود.
الأبيات التالية تعبر عن نشوة تامة وقع فيها الشاعر بعد كل تلك الأطياف والمشاعر فإذ به يقول لقائد مركب النيل:
أيها الملاح، قفْ بين الجسور...فتنة الدنيا، وأحلام الدهور
صفق الموج لولدان وحور... يغرقون الليل فى ينبوع نور
ثم يصل إلى ذروة التجلى حين استرد خيال الأهرامات والنيل وهو ما زال فى فينيسيا الإيطالية فينشد:
رقص الجندول كالنجم الوضى...فاشْد، يا ملاح، بالصوت الشجى وترنمْ بالنشيد الوثنى....هذه الليلة حلْم العبقرى كعادة القصيدة الرومانسية لابد أن تنتهى بما بدأت وبأجمل الأبيات فيأخذنا على محمود طه مجددا ــ ويبدع عبدالوهاب لحنا وموسيقى ــ بأبيات تقول:
أين، يا فينيسيا، تلك المجالى؟
أين عشاقك سمار الليالى؟
أين من عينى أطياف الجمال؟
يا عروس البحر، يا حلْم الخيال!!

عاطف معتمد الدكتور عاطف معتمد
التعليقات