من مظاهر التدهور الحضارى - جلال أمين - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 2:11 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

من مظاهر التدهور الحضارى

نشر فى : الثلاثاء 30 يونيو 2015 - 10:40 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 30 يونيو 2015 - 10:40 ص

مظاهر التدهور الحضارى، مثل مظاهر الشيخوخة، كثيرة ومؤلمة.

المقارنة التى فى ذهنى الآن هى بين أحوال مصر الراهنة، وبين أحوالها منذ ستين أو سبعين عاما.

فى منتصف القرن العشرين كانت مصر أشد فقرا بكثير منها الآن، وكانت نسبة الأمية أعلى، كما كانت درجة اتصال المصريين بالعالم الخارجى، المتحضر منه والأقل تحضرا، أقل بكثير منها الآن. فما الذى يجعلنى أشعر بقوة بأننا «تدهورنا حضاريا» خلال هذه الفترة؟

ليس من السهل طبعا أن نحدد معنى «التدهور أو التقدم» فى مضمار الحضارة. إننى لا أعتبر مستوى الدخل مقياسا جيدا للتحضر أو التخلف الحضارى، لا على مستوى الأمة ولا على مستوى الفرد، إذ أعرف كثيرين من منخفضى الدخل فى مصر ممن اعتبرهم أكثر تحضرا من غيرهم الأكثر مالا، بل وأكاد أقول الشىء نفسه عن مستوى الأمية. وقد لاحظت أنه فى بلد كانجلترا، التى أعرفها أكثر مما أعرف غيرها من دول الغرب، ولمست ما طرأ عليها من تغيرات خلال الستين عاما الماضية، منذ كنت طالبا بها، حدث فى الحياة الاجتماعية والثقافية ما يمكن اعتباره أيضا تدهورا فى مضمار الحضارة.

كان سلوك الشباب الانجليزى فى الشوارع أكثر تحضرا منذ ستين عاما، وشرب الخمر أقل انتشارا، ولم يكن من المقبول «ولا من المتصور» أن يقوم أحد بالكتابة على جدران محطات المترو، بالخط العريض، ما يشوه منظرها، لمجرد إشباع حاجة سخيفة للتمرد.

كانت الصحف الانجليزية أيضا أكثر رقيا منها الآن، وكذلك برامج التليفزيون.. الخ. الأمثلة كثيرة على «تدهور حضارى»، رغم الارتفاع الكبير فى الدخل، وانتشار وسائل الراحة المادية، وكذلك انتشار التعليم.

***

ما الذى يمكن أن نقوله عن مصر من حيث التدهور الحضارى؟

نسبة الأمية انخفضت منذ منتصف القرن العشرين، ولكن مستوى التعليم الذى يحظى به المتعلمون فى المدارس والجامعات، تدهور بلا شك.

وما كان يشعر به المصرى من خجل إذا لم يستطع التعبير عن نفسه بلغة عربية سليمة، حل محله استهتار مدهش بقواعد اللغة فيما يلقى من خطب، أو ينشر فى الصحف، أو حتى فى الكتب.

لفت نظرى أخيرا شدة اهتمام الصحف بما سمته «صعوبة أو سهولة الامتحانات»، فتكرر نشر صور الطلبة والطالبات وقد اعتلى وجوههم الحزن الشديد «إلى درجة البكاء أحيانا»، بسبب ما وجدوه من صعوبة فى امتحان الطبيعة أو الرياضيات، فى امتحانات الثانوية العامة، ثم ما اعتراهم من فرح شديد «بسهولة» امتحان اللغة العربية مثلا أو علم الأحياء. كانت طريقة نشر هذه الأخبار تنطوى على ما يشبه «الثناء» فى حالة السهولة، أو تنبيه المسئولين إلى خطورة التمادى فى وضع امتحانات صعبة أو «فوق مستوى الطلاب». رأيت فى هذا وذاك استعدادا لمجاراة الرأى العام، حتى فى مواقف قليلة الحظ من التحضر، أو حتى غير أخلاقية، كما يظهر على الأخص فى التساهل مع شيوع الغش فى الامتحانات.

يبدو لى أن هذا التمادى فى مجاراة الرأى العام، والمبالغة فى إثارة عواطفه واسترضائه، هو من سمات «التدهور الحضارى» الذى أتكلم عنه. إننى أذكر كيف كانت صحفنا ومجلاتنا وبرامجنا الإذاعية فى الأربعينيات من القرن الماضى، تتسم بسمات هى عكس هذا بالضبط.

كان الكتاب وأصحاب الأحاديث والبرامج الإذاعية فى ذلك الوقت يتسمون بروح «التوجيه»، والرغبة فى الارتفاع بمستوى القارئ أو المستمع إلى مستوى ثقافى أو أخلاقى أعلى. إننى لا أقصد إلقاء «المواعظ»، فهذه أيضا كثيرا ما تندرج تحت باب «مجاراة الرأى العام». ولكننى أقصد الرغبة الصادقة فى تحقيق نهضة عامة. أما الآن فنلاحظ ميلا واضحا إلى تملق الجمهور، سواء فى استخدام كثيرين من الكتاب ومقدمى البرامج التليفزيونية للغة ليست أفضل من اللغة السائدة «بل قد تكون أشد انحطاطا منها» أو فى اختيار الموضوعات التى يجرى حولها الحديث.

***

فى مناخ ثقافى وإعلامى يتملق الرأى العام أكثر مما يحاول النهوض به، تكتسب «الشهرة» مكانة عالية، بصرف النظر عما إذا كانت تستند إلى موهبة حقيقية أو تميز ثقافى أو أخلاقى. وقد أدى هذا إلى ما نلاحظه من ميل وسائل الإعلام، أكثر فأكثر، إلى أن تعيد وتزيد فى الإشادة بالرجل المشهور وفى تتبع أخباره، المهمة منها والتافهة، اعتمادا على أن الشهرة تضمن الرواج. فإذا حدث مرض أو مات الرجل الشهير، لم تجد وسائل الإعلام موضوعا أفضل من الاستمرار فى الإشادة به وتقريظه، خاصة إذا كان قد عرف عنه قربه من السلطة ورضاها عنه، إذ يضمن هذا تحقيق إرضاء الرأى العام والسلطة فى الوقت نفسه.

***

لم أعد بحكم سنى كثير التجول فى وسط القاهرة، كما كنت أفعل عندما كنت أصغر سنا. ولكن ندرة الخروج والتجول لها ميزة، إنها تسمح بملاحظة ما طرأ من تغير فى أحوال الناس، مما قد لا يتضح فى فترة قصيرة من الزمن. رأيت منظر بعض البائعين المتجولين فى شارع رئيسى، وهم يحاولون جذب انتباه راكبى السيارات لدى وقوفهم فى إشارات المرور عسى أن يشتروا منهم ما يعرضونه من بضاعة.. كان معظم ما يعرضونه للبيع سلعا غير ضرورية، ولكنها قد تجذب البعض لشرائها بسبب انخفاض سعرها، فهى من إنتاج دولة أسيوية، كالصين، تتميز بكثرة إنتاجها لهذه السلع الرخيصة. لم تكن السلع هى التى تلفت النظر بل وجوه البائعين. فقد راعنى ليست فقط كثرتهم، بل استماتتهم من أجل الحصول على مشترين، وما يعتلى وجوههم بسبب ذلك من بؤس يختلط بدرجة عالية من اليأس.

قلت لنفسى: نعم كان هناك فى صباى فقراء كثيرون فى مصر، ولكننى لا أذكر أننى رأيت مثل هذه التعبيرات على الوجوه.

يبدو أن الفقر أشكال وألوان، ويتوقف ما يقترن به من بؤس، ليس فقط على مجرد الحاجة إلى نقود، بل ما يتعرض له الفقير من ضغوط نفسية من أهله وجيرانه، ومن ثم من نفسه هو أيضا، تجعله يحاول الحصول على نقود بهذا القدر من الاستماتة.

اعتبرت هذا المنظر أيضا من مظاهر «التدهور الحضارى». فهل أستطيع الآن أن أستخلص من هذه الأمثلة بعض ما ينطوى عليه هذا التدهور بالمقارنة بما كان سائدا فى مصر منذ ستين أو سبعين عاما؟ هل كنا، بوجه عام، أكثر صدقا واستقامة فى ذلك الوقت؟ أم أكثر مروءة؟ أم أكثر قناعة؟ أم كنا نتسم بدرجة أكبر من احترام النفس واحترام الغير؟

أم أن الدولة كانت، منذ ستين أو سبعين عاما، أكثر صلابة وأقل رخاوة مما أصبحت فيما بعد، فلم تكن تسمح بهذه المظاهر المختلفة للتدهور الحضارى، وحافظت على درجة عالية من استقلال القضاء، وأصرت على تحقيق درجة عالية من التسامح فى علاقة المسلمين بالأقباط.. الخ، رغم أن الفقر وقتها كان أشد، والأمية أكثر انتشارا؟

هل قوة الدولة كانت دائما، خاصة فى مصر، مظهرا وسببا للتقدم الحضارى، ورخاوتها وضعفها من مظاهر وأسباب التدهور والانحطاط؟

جلال أمين كاتب ومفكر مصري كبير ، وأستاذ مادة الاقتصاد في الجامعة الأمريكية ، من أشهر مؤلفاته : شخصيات لها تاريخ - ماذا حدث للمصريين؟ - عصر التشهير بالعرب والمسلمين - عولمة القهر : الولايات المتحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمبر.
التعليقات