الاستقرار هو المطلب الرئيسى الذى تعلقت به أحلام وآمال الشعب المصرى بعد المعاناة من العنف والفوضى والانفلات الأمنى خلال السنوات التالية على ثورة يناير، وبعد متابعة ما تعرضت له شعوب عربية شقيقة من مآس وحروب نتيجة لانهيار السلطة المركزية للدولة. والعقد السياسى الذى شكل العلاقة بين الشعب والدولة المصرية فى المرحلة التالية على إقرار دستور ٢٠١٤ استند إلى قبول قطاع واسع من الجماهير التغاضى عن الاصلاح السياسى والديمقراطية والحقوق العامة مقابل التزام الدولة بتحقيق الأمن والاستقرار والقضاء على الارهاب.
والحقيقة أن الانفلات الأمنى الذى عانى منه الناس منذ مساء يوم ٢٨ يناير ٢٠١١ ولعدة سنوات بعد ذلك لم يكن بالأمر البسيط، بل شكل صدمة عميقة للجميع حتى من انحازوا للثورة أملا فى تحقيق الحرية والمساواة والعدالة. وقد عايشت شخصيا هذه التجربة فى الأوقات التى قضيتها فى الصعيد أكثر مما خبرته فى القاهرة حينما سيطر الخوف على البيوت، وتوقفت مظاهر الحياة الطبيعية من غروب الشمس حتى شروقها، وانطلق العنف الكامن متخذا أشكالا قبلية واقتصادية وطائفية عدة، وجرى تبوير أخصب الاراضى والبناء عليها دون رادع، والمضاربة على الدقيق والاسمدة والوقود والتراخيص، وإيقاظ خصومات ثأرية كان الزمن قد أسكتها من سنوات طويلة.
لهذا فإن ترحيب الناس بعودة الأمن وبفرض سطوة الدولة ورفض كل ما يمكن أن يؤدى للفوضى والانفلات فى الشارع كان ولا يزال محل اجماع واسع فى المجتمع. وهذا اختيار ينبغى فهمه وعدم الاستهتار به لأن الاستقرار أساس البناء والتنمية والتقدم.
ولكن أى استقرار؟
بينما نجحت الدولة فى توفير الأمن والانضباط فى الشارع مقارنة بالانفلات السابق، وهو نجاح دفع ثمنه المئات من الشهداء والمصابين من رجال القوات المسلحة والشرطة وذويهم فى المعركة ضد الارهاب والبلطجة والعنف، فأنها تجاهلت أن الاستقرار لا يأتى بالأمن وحده بل يلزم لتحقيقه توافر عناصر أخرى لا تقل أهمية.
الاستقرار يحتاج أولا لسياسات اقتصادية واجتماعية توفر للمواطن الحد الأدنى من الخدمات العامة والسلع الاساسية والحماية الاجتماعية بما يحفظ له كرامته وإنسانيته مهما ارتفعت الاسعار أو اضطر لتغيير نمط استهلاكه. والدولة لم تخطئ حينما اختارت اجراء إصلاح اقتصادى هيكلى من خلال تحرير سعر الصرف وترشيد دعم الطاقة وفرض ضريبة للقيمة المضافة، وكلها لا تزال فى تقديرى قرارات سليمة وضرورية برغم الغضب الشعبى حيالها الأن. المشكلة ان الدولة اكتفت بتعويض تلك الإجراءات بحزمة من المعاشات والاعانات والسلع التموينية، ولكن أهملت تحسين الخدمات والمرافق العامة فى الريف والمدن القديمة والمناطق العشوائية على حساب المدن الجديدة، وعجزت عن جذب الاستثمار الانتاجى الذى يوفر فرص عمل مستدامة ويخرج الشباب العاطل من البيوت والمقاهى، مع أن البطالة والفقر وضعف الخدمات العام اكثر ما يهدد الاستقرار.
والاستقرار يحتاج لمناخ سياسى متوازن، تخفف فيه الدولة من قبضتها على الاعلام والبرلمان والمجتمع المدنى والنشاط الجامعى والثقافى، وتتيح مساحة من الحرية فى التعبير وانتقاد السياسات العامة والتفاعل معها. وهذا، على عكس ما تصدره وسائل الاعلام الرسمية، لا يعنى عودة الفوضى إلى الشارع أو يهدد مؤسسات الدولة، بل هو ضمان للأمن والاستقرار لانه يتيح للناس وبخاصة الشباب التواصل مع الدولة خارج المؤتمرات محكمة التنظيم، والتعبير عن الرأى بشكل مشروع، والمشاركة فى مناقشة القرارات الحكومية وبالذات ما يحتاج منها للتضحية والتعب.
وأخيرا فإن الاستقرار ليس ممكنا فى غياب العدالة والقانون واحترام الدستور. لايوجد ما يبعث على الطمأنينة فى نفوس الناس والثقة فى المستقبل والاستعداد للتضحية أكثر من العدل والانصاف واليقين بأن القانون يساوى بين الجميع، وأن اجهزة الدولة التنفيذية مقيدة بدستور وقوانين، وأن القضاء نزيه ومستقل، وأن هناك دستورا يعلو على الجميع ولا يمكن تجاهل احكامه. الظلم وغياب العدالة هما أخطر ما يهدد الاستقرار ويمهد للفوضى والانفلات ويضعف مصداقية الدولة ومؤسساتها.
الشعب المصرى بأسره يتوق إلى الاستقرار وقد يكون مستعدا لمزيد من التضحية من أجل تجنب الوقوع فى دوامة الفوضى والعنف والشلل الاقتصادى. ولكننا بحاجة لمراجعة مفهوم الاستقرار وما يهدده، والخروج من سيطرة الاعتقاد بأن البلد مستقر طالما الشباب فى منازلهم وليسوا فى الشوارع والميادين، وطالما البرلمان طوع اليد، وطالما الاعلام تحت السيطرة. الاستقرار الذى ينبغى أن ننشده هو الذى يعتمد على استعادة المواطن لثقته فى مستقبل البلد وأن له مكانة وكرامة وصوت مسموع وقدرة على العمل وحقوق يحميها القانون. الاستقرار هو ما يتحقق من خلال السلم الاجتماعى والعدالة والحرية وليس السكون الظاهر على السطح فقط.