منذ أيام، قطع سكان إحدى قرى الجيزة خط قطار وجه قبلى، بسبب نزاع بين عائلتين على أرض زراعية. وفى الأسبوع الماضى، عطل العاملون بإحدى المصالح الحكومية العمل بالمصلحة اعتراضا على عدم تعيين أبنائهم.
ومنذ أسابيع قليلة، اعتدى طلاب إحدى الجامعات على الموظفين وأعضاء هيئة التدريس، لأن نتائج الامتحان جاءت على غير هواهم. وفى محافظة ساحلية، حاصر أهالى المنطقة مركز الشرطة للمطالبة بالإفراج عن مسجونين صدرت عليهم أحكام فى جرائم عادية (غير سياسية). وقبل ذلك، اقتحم أهالى بعض المتهمين قاعة إحدى المحاكم الجنائية واعتدوا على القضاة، لأن قرار المحكمة بإدانة المتهمين فى جرائم سابقة على الثورة لم يعجبهم.
هذه ليست إلا عينة من الأخبار التى صرنا نقرأها فى صحف الصباح، فلا تلفت نظرنا، بل نعتبرها من المواضيع اليومية المعتادة. كان من الممكن أن تكون هذه أخبار جرائم تنشرها الصحف فى باب الحوادث، لولا أن نهايات القصص أسوأ بكثير من بداياتها. سكان قرية الجيزة لم يتعرضوا لأية مساءلة، بل قامت أجهزة الدولة بشكرهم على إعادة تسيير قطار الصعيد، وأبناء العاملين فى المصلحة حصلوا على وعد من رئيسها بالتعيين، وامتحانات الطلاب سوف يتم إعادة تقدير درجاتها لتحسين الوضع، والصادر ضدهم أحكام نهائية تم الإفراج عنهم وعادوا إلى منازلهم سالمين.
لم يصمد سوى القضاة فى محكمتهم، واحتموا بغرفة المداولة حتى تمكنت قوات أمن المحكمة من إخراجهم فى مشهد يذكر بخروج الفدائيين من حصار بيروت عام 1982.
لا أظن أن هناك من يختلف على أن هذه مصيبة. الجرائم والمخالفات أمر معروف فى كل مجتمع وعصر ونظام حكم. ولكن التجاوب معها كما لو كانت مطالب مشروعة، بل كما لو كانت أعمالا وطنية تستحق الثناء والتحية هو ما لا يوجد وصف له سوى أنه مصيبة، لأننا لا نتحدث عن ضياع هيبة الدولة فقط، ولا عن مشكلة الشرطة وغيابها عن الشوارع، ولا عن ظاهرة البلطجة وصعوبة تطبيق القانون. نحن أمام قضية أكبر من ذلك بكثير، وهى الغياب التام لقدرة المجتمع على التمييز بين المطالب المشروعة وبين الجرائم التى لا يمكن أن يكون لها وصف أو اسم آخر.
كيف وصلنا إلى هذا الحال المؤسف؟ فى غمار الثورة وأيامها الأولى تطورت المطالب السياسية التى نزل بها الشباب فى ميدان التحرير إلى مطالب نقابية وفئوية للعاملين فى مختلف المجالات، من القطاعين العام والخاص وفى المصالح الحكومية، فأحدثت بذلك نقلة نوعية وحاسمة فى إيقاع الثورة، وحسمت الصراع لصالح الجماهير، وانتقلت بالمشهد كله من انتفاضة سياسية إلى ثورة اجتماعية بالمعنى الكامل. هذه المطالب العمالية أو الفئوية ــ كما تم تسميتها عن خطأ أم صواب ــ كانت تعبر عن تراكم سنوات طويلة من الخلل البالغ فى نظم العمل والأجور والحوافز وعن استعداد العاملين فى مختلف المجالات للتنظيم والتفاوض الجماعى من أجل تحسين أوضاعهم فى العمل.
ولكن مع الوقت بدأت المطالب العمالية والفئوية المشروعة تختلط بالسعى لتحقيق ما لا يجوز وما لا يمكن تبريره تحت أى مسمى.
تعيين الأبناء فى المصلحة التى يعمل بها الآباء (وفى حالة مشهورة وفريدة المطالبة بقصر التعيين على أبناء العاملين)، اقتحام أقسام الشرطة للإفراج عن معتقلين فى جرائم قتل وسرقة وهتك عرض، الاعتداء على قضاة فى محاكمهم لمنعهم من إصدار الأحكام، التظاهر للحصول على تعويضات لمن لا يستحقونها، وعشرات المطالب الأخرى التى لا هى فئوية ولا عمالية ولا نقابية، بل وتتعارض مع مصلحة باقى أفراد المجتمع. ولكن المجتمع صمت على ذلك، والإعلام لم يفرق بين المشروع وغير المشروع بل وغير المعقول، بين التظاهر من أجل حقوق الشهداء وزيادة الأجور وتحسين ظروف العمل، وبين اقتحام محطات الكهرباء والمياه من أجل تعيين الأبناء، والحكومة ضعفت وفضلت مجاراة الجميع بدلا من الدخول فى مواجهات مع من يغتصبون الحقوق ويحصلون على مكاسب لا يستحقونها. لذلك كان طبيعيا أن يصل الاضطراب فى المفاهيم إلى الحد الذى نشهده اليوم.
خطورة الوضع الحالى ليست فقط فيما يترتب على السكوت على هذه الجرائم من فوضى وتعطيل للمصالح، وإنما فيما يؤدى إليه أيضا من اختلاط الحابل بالنابل، وإساءة بالغة لكل ما حققته الثورة من مكاسب سياسية واجتماعية ومن مزايا للعمال والموظفين وللمعتقلين السياسيين ولأهالى الشهداء.
وهذا الخلط بين المطالب المشروعة وبين البلطجة والفوضى سوف يؤدى إلى نتائج خطيرة، أهمها أن الناس سوف تفقد رغبتها فى تأييد المطالب النقابية والفئوية ولو كانت مشروعة ومنطقية بسبب القلق من استمرار الفوضى.
كذلك فإن عدم التمييز بين الثورة والفوضى سوف يؤدى إلى اندفاع الناس نحو المطالبة بتطبيق القوانين العرفية والاستثنائية وتقييد الحريات ومنع التظاهر والاعتصام وتشديد العقوبات واستخدام العنف ضد الجميع سواء كانوا ممن يطالبون بحقوق مشروعة أم ممن يستغلون الموقف لتحقيق مصالح لا يستحقونها. وهكذا تتوافر الظروف الطبيعية التى تؤسس لاستبداد جديد، ولكنه أخطر الأنواع، حيث يأتى استجابة لمخاوف الناس، وتعبيرا عن رغبة حقيقية فى تقديم الأمن والنظام المفقودين على الثورة والحرية.
كيف يمكن الخروج من هذه الحالة الخطيرة؟ لا شك أن عودة الشرطة للشوارع ضرورية لتحقيق أى قدر من الانضباط فى الشوارع. ولا شك أيضا أن اتخاذ الحكومة والمجلس العسكرى لمواقف أكثر حسما وتمييزا وعدم الرضوخ للمطالب غير المشروعة شرط ضرورى لوضع نهاية للفوضى الجارية. ولكن فى تقديرى أن هناك واجبا أيضا على القوى والأحزاب السياسية وعلى الإعلام فى التفرقة بين الثورة والفوضى وبين المطالب النقابية والبلطجة. المجتمع والرأى العام بحاجة لأن نقف جميعا ــ حكومة وقوى سياسية وإعلاما ــ وراء موقف واحد، بقدر ما يدافع عن الحرية وحقوق الاعتصام والإضراب والاحتجاج السلمى، بقدر ما يرفض بشكل قاطع ترويع الناس واغتصاب حقوقهم واستغلال الموقف لمصالح خاصة غير مشروعة.
أعلم أنه من الصعب على الحكومة وهى تحت ضغوط شديدة لإرضاء الجميع أن تتخذ مواقف خلافية قد تعرضها للنقد، وأنه من الصعب على القوى السياسية وهى مقبلة على انتخابات أن تقف موقفا حاسما قد يفقدها بعض الأصوات، ولكن هذه اختيارات ضرورية لمصلحة الناس والمجتمع، وللحفاظ على مصداقية الثورة، والناس سوف تقدرها وتحترمها، لأنها فى النهاية تحقق صالح الوطن والمواطنين.