كان من ألغاز ثورة يناير 2011، أن يعلن من استولوا على السلطة فى أعقابها عن موعد قريب لإجراء انتخابات مجلس الشعب. بدا هذا الإسراع فى الإعلان عن انتخابات جديدة، غريبا فى أعقاب ثورة مهمة لهذه الدرجة، جاءت لإنهاء حكم طويل اقترن بشيوع الفساد فى مختلف مجالات الحياة السياسية والاقتصادية. فالمألوف والمتوقع مع ثورات شعبية من هذا النوع، أن يتخذ من يتسلم السلطة بعد نجاح الثورة بعض الإجراءات المهمة وأن يصدر بعض القوانين التى تواجهها كان شائعا من فساد، قبل أى تفكير فى تسليم السلطة لمنتخبين جدد. فالإسراع بإجراء انتخابات جديدة لابد أن يؤدى إلى عودة أشخاص من نفس النوع الذى ثار الناس عليه، والذين مازالوا يتمتعون بامتيازات من النفوذ والمال تسمح لهم بالعودة من جديد، أو للتيار الدينى الذى يتمتع بأكبر قدر من الشعب قبل وبعد الثورة، أو بمزيج من الفريقين. فهل دخل هذا أو ذاك فى حساب الممسكين الجدد بالسلطة؟
● ● ●
حدث أيضا بعد أيام قليلة من تنحى رئيس الجمهورية، هجوم مريب على أكثر من مركز من مراكز الأمن التى تحتوى على ملفات مهمة لابد أن فيها ما يدين أشخاصا كانوا يحتلون مناصب كبيرة قبل الثورة. قام المهاجمون بإحراق عدد كبير من الملفات، فما الذى كانوا يريدون إخفاءه وطمسه إلى الأبد؟ ولماذا تأخر المسئولون عن استتباب الأمن فى عمل اللازم لمنع هذا الهجوم قبل وقوعه أو التصدى له قبل استفحاله؟
بدأ يشيع استخدام لفظ «البلطجية» لوصف من يقوم بأعمال إجرامية أو اعتداءات، بما فى ذلك الاعتداء على الثوار أنفسهم، أو من يعتصمون منهم فى الميادين، أو المنادين باتخاذ بعض الإجراءات التى تتفق مع أهداف الثورة، أو المحتجين على التباطؤ فى اتخاذ هذه الإجراءات. ووصف «البلطجية» وصف غامض وغير مفيد البتة، إذ إنه، مثل وصف «الإرهابى» لا يصف الشخص بل يصف العمل الذى قام به، ومن ثم فهو لا يفيد فى زيادة معرفتنا بنوع الجانى أو هدفه، بل يفيد فقط فى صرف النظر عن محاولة التعرف عليه. وهكذا زادت ألغاز الثورة لغزا. إذ من هم البلطجية الذين اشتركوا أو قادوا «موقعة الجمل»، وهاجموا الثوار فى ميدان التحرير وهم يحملون السيوف والعصى راكبين الجمال والخيول؟ ومن هم البلطجية الذين اشتبكوا مع المعتصمين المنادين بالإسراع بمحاكمة من خططوا أو اشتركوا فى هذه الموقعة التى سقط فيها الكثير من الشهداء؟ ومن هم البلطجية الذين ألقوا بألواح الزجاج أو البلاط من العمارات المحيطة بميدان العباسية عندما قصده ثوار ميدان التحرير متجهين إلى وزارة الدفاع؟ ولماذا لا يضع المسئولون عن الأمن حدا لأعمال البلطجة هذه، أيا كان هدفها؟ ولماذا لا يُختار أشخاص أقوياء ومشهورون بالحزم كوزراء للداخلية؟
● ● ●
ولكن لغز اختيار المسئولين ليس مقصورا على وزارة الداخلية. لقد لوحظ من البداية أن اختيار المسئولين الجدد لا يتفق تماما مع ما كان يتوقعه الذين قاموا بالثورة. لم يكن غريبا أن الحكومة الجديدة التى شكلها رئيس الجمهورية قبيل التنحى، أملا فى تهدئة الثوار وكسب الوقت، عهدت رئاستها لرجل كان وزيرا فى الحكومة السابقة، وإن لم يُعرف عنه أشياء تغضب الناس بل اشتهر بالكفاءة والحزم. ولكن لماذا يعود هو نفسه إلى رئاسة الحكومة حتى بعد تنحى رئيس الجمهورية، ولا يُختار شخص جديد تماما أقرب إلى ميول الثوار وأكثر استعدادا لتحقيق أهدافهم؟ الأغرب من هذا بقاء بعض الوزراء المهمين (كوزيرى المالية والخارجية مثلا) وبعض المسئولين الكبار فى جهاز النيابة العامة، فى مناصبهم رغم أنهم كانوا وزراء فى العهد السابق، أو يشغلون وظائف مهمة خلال ذلك العهد، وبدا منهم التعاون التام مع النظام الذى تم إسقاطه. كيف يمكن تفسير ذلك أو فهمه؟
أدى هذا إلى تعاقب القيام بمظاهرات فى ميدان التحرير للمطالبة بالتغيير، فكان من المدهش التباطؤ الملحوظ فى الاستجابة لهذه المطالبات، أو إحلال شخصية متوسطة، من حيث تمتعها بقبول الثوار، محل شخصية أخرى. حدث هذا حتى فى اختيار رئيس الوزراء. كان رجلا معروفا بالنزاهة والوطنية، ولكنه بدا من اليوم الأول قليل الحزم والقدرة على فرض إرادته. بل وصدرت من نائبه منذ اليوم الأول لتعيينه، عبارات أذيعت على الملأ، تحمل هذا المعنى، فلا توحى بانسجام تام بين رئيس الوزراء ونائبه، ومع ذلك استمر كل منهما فى منصبه، كذلك ظل فى منصبه وزير الخارجية الذى ظل مسئولا لمدة طويلة عن سياسة خارجية فاسدة فى النظام السابق، ووزراء آخرون معروفون بالضعف أو الفساد أو الفشل أو الاتفاق التام مع طبيعة النظام السابق، ظلوا أيضا فى أماكنهم دون أى سبب مفهوم، وعندما جاء وزير جديد للخارجية تتفق آراؤه مع أهداف الثوار، تحت ضغط مستمر من هؤلاء الثوار، سرعان ما طلب إليه التخلى عن منصبه لاحتلال منصب آخر لا يستطيع أن يفعل فيه الكثير بحكم طبيعة ذلك المنصب الجديد.
● ● ●
كان من الممكن جدا والمتوقع أن تجرى تغييرات مهمة فى وسائل الإعلام، ولكن تم التغيير بعد فترة أطول من اللازم، وكأنها تتم على مضض، وبأقل قدر ممكن من تغيير الاتجاه العام للجريدة أو برامج التليفزيون والإذاعة، وبدلا من طرد أو فصل أو بدء التحقيق مع المسئولين القدامى، تركوا وشأنهم، وأحيانا أعطيت لهم مساحة فى داخل الجريدة أو التليفزيون لا تختلف كثيرا عما كانوا يحتلونه من قبل. بل حدث نكوص عن بعض هذه التغييرات، وعادت بعض الوجوه القديمة إلى احتلال مواقع مهمة فى الإعلام.
ثم سرعان ما ظهر لغز آخر يتعلق بطريقة التعامل مع كبار المسئولين فى النظام السابق الذين تمت إزاحتهم عن مناصبهم، من رئيس الجمهورية وزوجته وولديه، إلى كبار المسئولين عن الحزب وأعضاء لجنة السياسات التى كان يرأسها ابن الرئيس، وبقية الوزراء الذين استبعدوا من الحكومة الجديدة. جاءت للناس أخبار متناثرة يصعب اكتشاف المنطق الذى يحكمها، وأسباب القبض على هذا الرجل بالذات دون آخر، وتقديم هذا للمحاكمة وترك غيره، بل وترك بعض المسئولين الكبار جدا دون أن نسمع عن القبض عليهم، أو التحقيق معهم، أو حتى تنحيتهم عن مناصبهم. وأما المنع من السفر فلم يبد أيضا أن هناك منطقا يحكمه. لماذا ترك هذا الرجل يسافر فى الوقت المناسب ولم يسمح لغيره؟ ولماذا تم التحفظ على أموال هذا الرجل بالذات والتحقيق معه، مع أن هناك كثيرين أكثر خطرا بكثير وأكثر اشتهارا بالفساد؟
أما متابعة الثروات المهربة إلى الخارج فقد احتار الناس فى فهم ما اتخذ من إجراءات بشأنها. فرغم ما دأبت الصحف على نشره، صدرت تصريحات من مسئولين فى دول أجنبية تنفى أنه قد قدم إلى دولهم أى طلب بالتحفظ على الأموال. وأما الرئيس المخلوع نفسه، هو وزوجته، فقد احتار الناس مع الأخبار الواردة عن الصحة والتوعك وفقدان الشهية وتدهور الحالة النفسية، وقدرتهما أو عدم قدرتهما على الحركة، والعزم على نقلهما أو عدم نقلهما من مكانهما إلى مكان آخر، وصلاحية أو عدم صلاحية ذلك السجن أو ذلك المستشفى لاستقبالهما.. الخ. فلما كاد الناس يفقدون صبرهم، وبدأوا يعبرون عن شكوكهم وضجرهم، أعلن عن بدء محاكمة الرئيس ونجليه ووزير داخليته، وأن المحاكمة ستذاع بالصوت والصورة. فلما شاهد الناس صورة الرئيس وهو يدخل القفص محمولا على سرير، لم تبد الصورة مقنعة تماما، خاصة وأن البعض رأى صورة لنجلى الرئيس المخلوع ووزير داخليته، وهم خارجون من قاعة المحكمة دون قيد حديدى فى أيديهم، بل وظهرت لهم صورة وهم يتبادلون الضحكات أثناء خروجهم، وقيل إن بعض الضباط الذين كانوا فى طريقهم أدوا التحية العسكرية لوزير الداخلية الأسبق، وهو المتهم بتهم قد تصل عقوبتها إلى الاعدام.
● ● ●
هناك تفسير يبدو معقولا جدا لكل هذه الألغاز. وهو أن العادة فى أى ثورة ناجحة أن الذين يقومون بالثورة هم الذين يتسلمون مقاليد الحكم بمجرد نجاحها، أو على الأقل يتسلم الحكم من يختارونه لتمثيلهم. إذا حدث هذا فلا يتصور أن تحدث مثل هذه المفارقات التى ذكرتها. ولكن هذا التفسير لابد أن يثير التساؤل عن السبب: لماذا لم يتسلم الثوار السلطة، كما يحدث لأى ثورة ناجحة؟ بل يخطر بالذهن لغز آخر إذا نظرنا إلى المنطقة العربية ككل، نعم، لقد تتابعت الثورات فى دولة عربية بعد أخرى، ولكن لماذا لايبدو أن أيا من هذه الثورات، رغم مرور عدة شهور على قيامها، قد بلغت نهايتها وحققت هدفها؟ فى كل يوم نسمع أن هذه الثورة أو تلك على وشك أن تتم وأنه لم تبق إلا ساعات حتى يسقط النظام بأكمله، ثم نتبين أن النظام لم يسقط، أو أن رأس النظام مازال يقاوم الثورة بنجاح. حدث هذا فى ليبيا واليمن وسوريا. (بل وحتى تونس لم تستقر فيها الأوضاع بعد على نهاية واضحة) فلماذا يا ترى تبدو ثورات هذا العصر مختلفة تماما عن ثورات الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، عندما كان المرء يستيقظ فى الصباح فيسمع عن استيلاء بعض الضباط على الحكم وعزل الرئيس وينتهى الأمر؟
إننى أميل، أكثر فأكثر إلى الاعتقاد بأننا نعيش فى عصر لا يسمح لنا فيه إلا برؤية ما يظهر على خشبة المسرح، دون أن يقال لنا أى شىء عما يدور فى الكواليس، (بل كثيرا ما يقال لنا عكس ما يدور فيها بالضبط). القرارات تأتى كحصيلة صراع بين العديد من المصالح والضغوط التى لا يسمح لنا بمعرفتها، ولا يترك لنا إلا حق التخمين. ما الذى يمنع يا ترى الوصول بمحاكمة الرئيس المخلوع ونجليه إلى نهايتها الطبيعية؟ وما الذى يمنع يا ترى من التحقيق مع تلك الشخصية الخطيرة بينما يحقق مع غيرها؟.. إلى آخر تلك الأسئلة التى طرحتها فيما تقدم. وإذا لم يسمح لنا بأكثر من التخمين عن طبيعة هذه الضغوط ومصدرها، فكيف يسمح لنا بالمشاركة فى مقاومتها؟
هذه، للأسف، هى سمة العصر الذى نعيشه الآن، عصر التكنولوجيات الحديثة التى تسمح بمعاملة الشعوب والمحكومين مثل هذه المعاملة: تتحكم وسائل الإعلام والاتصال الحديثة فى عقولهم ومشاعرهم على نحو لم يكن متاحا من قبل، وتهزأ بآمالهم وطموحاتهم، وتشكل أفكارهم وعواطفهم على النحو الذى يتفق مع أهداف لا يفصح عنها، وتستبدل بالحقائق مجموعة من الصور المتحركة، فلا يدرى المرء ما إذا كان يشهد الأحداث كما تحدث فى الواقع، أم كما يتصورها المخرجون والمصورون.