منذ ثلاث أو أربع سنوات مررت بتجربة صغيرة، لم أكن أتوقع أن تترك أثرا مهما فى نفسى، ولكن ها أنذا أعود إلى تذكرها بين الحين والآخر، وكأنها ترمز لتطور مهم سوف يزداد وضوحه على مر الأيام.
فقد دعيت إلى ندوة فى مكتب البنك الدولى بالقاهرة، مع عدد صغير من الاقتصاديين المصريين، لا أظنه كان يزيد على عشرة، بناء على طلب من نائب لمدير البنك، الذى كان فى زيارة للقاهرة، وحديث العهد بهذا المنصب الكبير، ولعله رأى أن يزور بلدا بعد آخر من بلاد العالم الذى كان يسمى بـ«العالم الثالث»، ويلتقى ببعض اقتصادييه.
لم يكن هناك شىء جديد تماما فى هذه الدعوة، بل الأرجح أننى ما كنت سأذهب لحضورها لولا شىء واحد وهو أن الرجل الذين دعينا للالتقاء به كان صينيا، وأن تعيينه كنائب لمدير البنك الدولى كان المرة الأولى التى يشغل فيها صينى هذا المنصب. كان هذا فى حد ذاته سببا مغريا لتلبية الدعوة، ولكن المدهش حقا كان ما لاحظته من اختلاف شديد بين حديثه إلينا وبين أى حديث آخر سمعته من قبل من مسئول كبير أو صغير، فى مؤسسة دولية كبيرة، والذى يكون عادة أمريكيا أو أوروبيا، بل وحتى عندما يكون المسئول من بلاد العالم الثالث، كما لو كان هنديا أو أفريقيا، كان عادة يتقمص شخصية مسئول أمريكى أو أوروبى فيتكلم وكأنه مبعوث من العالم المتقدم إلى العالم المتخلف.
لم يكن الأمر على هذا النحو فى هذه المرة. بدأ الرجل حديثه بقوله إنه فى الأصل أستاذ اقتصاد فى جامعة بكين، وأنه يشغل وظيفة نائب لمدير البنك الدولى لمدة عام واحد وسوف يعود بعده للتدريس فى الصين. إذن فالرجل قد قبل العمل كبيروقراطى دولى على نحو عابر دون أن يكون شغوفا بالضرورة بمثل هذه المناصب. ثم أخذ يتكلم عن مشاكل التنمية فى بلاد العالم الثالث، وكأنه ينتمى لبلد من هذه البلاد، فلم يصدر منه قط أى تعليق ينطوى على مبالغة فى تضخيم مشاكل هذه البلاد، أو صعوبة التغلب عليها، بل عبر فقط عن استغرابه من أننا فى مصر لا نفكر فى تصنيع أشياء صغيرة، وسهلة الصنع، بدلا من استيرادها. كما ذكر لنا كيف أن شعورا كالشعور السائد فى كثير من بلاد العالم الثالث باستحالة تصنيع شىء ما، أو صعوبة المنافسة فيه، كان هو بالضبط الشعور السائد لدى اليابانيين قبل نحو قرن ونصف القرن من الزمان، إزاء التفوق الأوروبى عليهم، وقبل أن يحققوا نهضتهم العظيمة فى اللحاق بالغرب.
بدا لى أن الحديث بينه وبيننا يحمل قدرا من الألفة والتفاهم المتبادل أكثر مما اعتدته فى مناقشات سابقة مع مسئولين آتين من الغرب. فكان لابد أن يخطر لى التساؤل عما إذا كانت هذه الحادثة مجرد رمز لبداية تطور طويل قادم، ينتقل فيه مركز القيادة من الغرب إلى الشرق، وقد يكون هذا التطور (إذا كنا سعداء الحظ) بداية لمرحلة جديدة فى تاريخ التقدم والتخلف، وفى العلاقات الدولية بوجه عام، حيث ينتقل مركز الاشعاع الحضارى، لأول مرة منذ خمسمائة عام، من الغرب إلى الشرق الأقصى.
•••
تذكرت شيئا قديما كنت قد قرأته للفيلسوف والمفكر البريطانى الشهير برتراند راسل (B. Russell) يتنبأ فيه بشىء كهذا. لم يكن التنبؤ بالدور المهم الذى ستلعبه الصين فى المستقبل شيئا غير مألوف منذ مائة عام أو أكثر، فقد كان حجم سكان الصين، ومواردها وحضارتها القديمة مما يشجع على هذا الاعتقاد. ولكن برتراند راسل كان كعادته أكثر جرأة فى التنبؤ وأشد حسما، ومن ثم قال أشياء تبدو لأى قارئ اليوم مدهشة فيما تدل عليه من بصيرة نافذة وقوة الحدس، ولكنها تتضمن أيضا فى رأيى الكثير من الحكمة.
كان برتراند راسل قد ذهب فى زيارة للصين فى سنة 1920، أى منذ ما يقرب من مائة عام، وأصدر كتابا فى سنة 1922 بعنوان مشكلة الصين (The Problem of China) كتب فيه أن الصين، بعدد سكانها الذى يمثل ربع سكان العالم، (الخمس الآن)، «سوف تكون ذا أهمية قصوى، بل ربما أصبحت عاملا حاسما، فيما يحدث للعالم كله، خيرا كان أو شرا، خلال القرنين القادمين».
قال راسل أيضا إن هناك احتمالين: إما أن تتغير الصين فتسير فى نفس اتجاه دول الغرب الصناعية أو روسيا، أو أن يتغير الغرب نفسه، وهو ما يتمنى راسل حدوثه. قال «ان الصين، وان كانت (فى الوقت الذى يكتب فيه) دولة منخفضة الكفاءة سياسيا ومتخلفة اقتصاديا، لديها حضارة ليست أقل شأنا من حضارتنا، ان لم تكن أفضل منها، وتنطوى على عناصر يحتاج العالم بشدة إلى استمرارها والمحافظة عليها، فإذا قمنا بتدميرها كنا نحن الخاسرين».
وأشار راسل إلى ما يعنيه بهذه العناصر التى «يحتاج إليها العالم بشدة» فقال انها الأدب والرقة فى التعامل (courtesy)، والتحفظ فى إطلاق الأوصاف (ander stament) والتسامح مع الاخرين (tolerence) وعدم الافراط فى الاهتمام بالأمور الدنيوية (unworldiness)، وهو ما اعتبره مضادا لصفة ألصقها بالغرب وهى «الشره نحو السيطرة» (lust fot domination).
•••
كتب راسل هذا الكلام قبل ربع قرن من انتصار الثورة الصينية واستيلاء الشيوعيين على الحكم فى 1949، وقد انقضى على الصين منذ ذلك الحين أكثر من 60 عاما، مرت خلالها الصين بتجربتين مختلفتين تمام الاختلاف، وان كانتا متقاربتين، حتى الآن، فى الطول. فى الأولى أغلقت الصين أبوابها فى وجه العالم، وحاولت أن تتقدم باستحياء تراثها وبالاستغناء عن الغرب، ثم اكتشفت انها مع ضخامة عدد سكانها ومواردها ومزاياها المستمدة من حضارة عريقة، لن تستطيع أن تقف ضد عالم يناصبها العداء، ويحمل قيما وطموحات مختلفة تماما عن قيمها التقليدية، فأقدمت الصين بجرأة تحسد عليها على تجربة توفق فيها بين النقيضين: القيم المادية السائدة فى الغرب، وقيم الاشتراكية الأكثر اتفاقا مع تراثها. لقد اعترفت الصين بحتمية العولمة، ففتحت أبوابها أمام رءوس الأموال الغربية، وأبدت للغرب استعدادا للتفاهم والتعاون، ولكنها لم تقبل أن يعبث الغرب بعقول ابنائها مثلما فعل فى غيرها من البلاد، ولم تصغ لادعاءات الغرب عن «الديمقراطية»، التى لا يقصد الغرب بها إلا إضعاف السلطة المركزية فى الصين فى تعاملها مع الشركات الدولية.
•••
ان الأخبار التى تصلنا من الصين تدل على أن مخاوف برتراند راسل مما يمكن ان يحدث للصين لو كررت تجربة الغرب الرأسمالى، كان لها ما يبررها. فنحن نسمع عن ميل واضح لاتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء فى الصين، وعن انتشار نزعة المجتمع الاستهلاكى، وفى الوقت نفسه، لم تتخل الصين تماما عن ديكتاتورية ماوتسى تونج واستهانته بالحريات. إن موقف الصين مما يحدث فى العالم اليوم يبدو غامضا، وكأنها تؤثر التزام الصمت فى الوقت الحاضر حتى يبلغ الضعف مداه بزعيمة العالم الغربى (الولايات المتحدة). ولكن شعورا قويا لايزال يخامرنى بأن الصين لم تقل كلمتها النهائية بعد، وبأن المستقبل مازال فى جعبته من الخبايا ما قد يكون بعضه على الأقل أفضل بكثير مما نتصور. أليس من الممكن أن يكون مجرد انتقال مركز الحضارة من الغرب إلى الشرق، الذى يقترن بانتقال مركز الثقل فى السياسة الدولية من الولايات المتحدة إلى الصين، مبشرا ببداية عهد جديد للحضارة الإنسانية، يكون أكثر مراعاة للقيم الأخلاقية، وأقل قسوة فى معاملته لضعفاء العالم؟