هذا الأسبوع كانت الأزمة فى البطاطس، والأسبوع الماضى الطماطم، وقبلهما الفراخ، وقبل ذلك الخيار والفاصوليا والعدس. لا يكاد يمر أسبوع دون أن يتصدر المشهد نوع من الخضار أو اللحوم أو الأدوية أو الأسمدة، يرتفع السعر شيئا فشيئا ثم يقفز مرة واحدة حتى يصبح شراؤه من علامات الثراء والترف، ومصدر للهم والقلق، بينما كلها سلع أساسية المفروض ألا ينشغل بال الناس بها كثيرا.
فى كل مرة يدور ذات الحوار العقيم: السبب هو جشع التجار، بل تغيير مساحة المحصول، بل مؤامرة لضرب الاستقرار، بل تهريب السلع للخارج، بل الزيادة السكانية. والعلاج أيضا لا يختلف كثيرا: ضجيج إعلامى وطلبات إحاطة برلمانية تعقبها حملات من مفتشى التموين، ثم اقتحام لمخازن التجار وتصوير البضائع المكدسة داخلها، ثم تدخل الدولة بفتح منافذ خاصة لبيع السلع بأسعار مخفضة. وفى هذه المرة دخل أحد الأحزاب على الخط فأعلن عن توفير منافذ لبيع البطاطس بأسعار مخفضة فى مقاره من أجل مواجهة جشع التجار، وفقا للبيان الصادر منه.
مع ذلك تظل الأزمات متكررة، كل واحدة تفاجئ المسئولين وتدهشهم وتستدعى ذات التعليقات والمسكنات، لأننا فى الحقيقة لا نواجه القضية من جذورها ونتجنب مناقشة لب الموضوع: ما هى طبيعة الاقتصاد؟ وما أدوات الدولة فى إدارته؟ وهل الوسيلة المناسبة للحد من الارتفاع غير المبرر فى الأسعار هو السيطرة أم المنافسة؟
الدولة من جهة لا تملك حقيقة أدوات ضبط الأسواق والسيطرة على انفلات الأسعار بالوسائل التقليدية التى كانت فيما مضى تعتمد على التسعير الجبرى وعلى إنشاء المجمعات الاستهلاكية ومنافذ التوزيع فى كل أنحاء الجمهورية وعلى إطلاق حملات التفتيش. فالانتاج ليس فى يد الدولة، والأسواق خرجت عن سيطرتها، والتعاملات ممكنة بوسائل ومن خلال قنوات بعيدة عن الرقابة والرصد. مع ذلك فإن الاعتقاد السائد فى الشارع ولدى الكثير من الإعلاميين والبرلمانيين والمعلقين أن الدولة لا تزال قادرة على التحكم فى الأسعار والضرب بيد من حديد على من تسول له نفسه مخالفة تعليماتها.
ومن جهة أخرى فإن الدولة ليست مستعدة لترك آليات السوق الحرة تعمل بكفاءة ولا فتح الباب للمنافسة ولدخول أطراف جديدة بما يحد من الاحتكارات القائمة وبالتالى من الارتفاعات غير المبررة فى الأسعار، لأن البيروقراطية والمصالح القائمة تمنع صغار المنتجين والموزعين على الحصول على التراخيص اللازمة وعلى التمويل والتسهيلات والمعلومات التى تتيح لهم منافسة الأوضاع الاحتكارية القائمة خاصة فى مجال توزيع المواد الغذائية. وهذا يجعل الفلاح يبيع المحصول فى الأرض أحيانا بربع ثمن بيعه للمستهلك النهائى لأن سوق التوزيع واقعة تحت سيطرة احتكارات قائمة وبيروقراطية تحميها بالقصد أو دون معرفة بما يجعل دخول منافسين جدد فى مجال الانتاج والتوزيع شديد الصعوبة إن لم يكن مستحيلا.
هذه الأسئلة والتحديات ليست جديدة، ولا موضوع الارتفاعات المفاجئة وغير المبررة فى أسعار السلع الرئيسية وافد علينا. ولكن موجة الغلاء العاتية التى اجتاحت البلد منذ نهاية عام ٢٠١٦ وفوضى الاسعار التى نتجت عنها تجاوزت ما اعتاد الناس عليه وكشفت اكثر مما مضى عن ضرورة اعادة التفكير بجدية فى دور الدولة وأدواتها فى إدارة الاقتصاد.
بمقدورنا أن نستمر فى لوم التجار على جشعهم، ومباحث ومفتشى التموين على تقاعسهم، والناس على اسرافهم، وكل هذا لن يغير من حقيقة أن الاسواق مضطربة والأسعار منفلتة لأن الاقتصاد ليست له هوية محددة ولا اتجاه واضح، والمواطن هو الضحية.