لم يكن المشهد الذى أبدعته القوى الوطنية والمدنية والثورية يوم الثلاثاء الماضى (27نوفمبر) فى شكله ومضمونه العام جديدا على مصر، التفاصيل وحدها هى التى تجد اختلافات فى متن المشهد، لكن الإبداع الثورى المتعدد الوجوه، عرفته مصر فى تاريخها المعاصر بأشكال كثيرة ومتنوعة، مرة ضد الاحتلال الأجنبى، ومرة أخرى فى مواجهة الاستبداد السياسى للسلطة الحاكمة التى تضع القوانين، وتفرضها بالحديد والنار، ويصل الأمر إلى إلغاء الدستور هكذا بكل جبروتها، مثلما فعلت وزارة «محمد محمود» الفاشية عام 1930 التى ألغت دستور 1923 الذى كان نتيجة نضال الشعب المصرى بعد ثورة 1919،
هذه الوزارة التى أطلقت على نفسها «الوزارة الحديدية»، وسعت لكتابة دستور آخر يناسب توجهاتها، وكانت هناك مقاومة جديدة وصلت إلى ثورة عارمة عام 1935والتى استشهد فيها شباب من خيرة أبناء مصر ومنهم الشاعر عبدالحكم الجراحى والشهيد عبدالمجيد مرسى، ويستمر المشهد يعلو ويهبط حتى يصل بنا إلى عام 1946، والذى واجهت فيه السلطة المستبدة مظاهرات واحتجاجات وثورة عارمة، واضطرت هذه السلطة لاستخدام أعتى الاساليب القامعة والمستبدة، وما نشهده الآن هو تكرار مكثف لمشاهد أصيلة للشعب المصرى، هذا الشعب الذى قال عنه الشيخ عبدالرحمن حسن الجبرتى المؤرخ العظيم: «ومما يمتاز به شعب مصر.. قوة التحمل، وصلابة العزم والمراس.. وشدة الحيوية»، وصدق مؤرخنا العظيم بهذا الاختصار العبقرى، ولكن المستبد فى لحظات استئثاره بالسلطة لا يدرك ولا يعى ولا يبصر أبدا ما يقوله التاريخ والوقائع.
ومع تكرار هذا المشهد الثورى الأصيل للشعب المصرى، كان الأدب يرصد ويحلل ويغوص بعمق فى تفاصيل هذه المشاهد التى تنطبع فى روح الشباب بشكل كبير، فتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وسيد عويس (عالم الاجتماع) وعلى مصطفى مشرفة وغيرهم، عبروا عن ثورة 1919 بشكل متنوع وواسع، وكتب كذلك عبدالرحمن الشرقاوى روايته (الشوارع الخلفية) عن ثورة 1935، وهى معركة الدستور، وكل هؤلاء من الكتاب والمبدعين الكبار، كانوا شبابا أو أطفالا أو مشاركين فى الأحداث، وأبدعوا مثل هذه الإبداعات العظيمة التى ما زالت تعتبر مرجعيات أصيلة لقراءة أحداث الثورات من منظور إبداعى، وما يحدث الآن فى مصر رغم بعض التعبيرات السريعة والآنية فى أشكال فنية وشهادات وكتابات متنوعة، سيكون مسرحا لإنتاج أدب عظيم وعالمى يرصد ويحلل ويسرد ما لم تستطيع العين المجردة أن تراه، ولا نستطيع أن نحدد الزمن الذى يستغرقه الانتظار حتى يكون لدينا هذا الأدب الذى يستوعب كافة تفاصيل الثورة والحكايات التى تحيط بها من كل الجوانب الانسانية العميقة، ورغم أن توفيق الحكيم نشر روايته «عودة الروح» عام 1933، إلا أنه كان قد انتهى من كتابتها عام 1927 فى باريس، حيث أتيحت له فترة استيعاب وتأمل واسترجاع ليستطيع أن يعيد إنتاج الحدث فنيا، وكذلك نجيب محفوظ فى ثلاثيته (بين القصرين وقصر الشوق والسكرية) التى كتبها بعد مرور الحدث بعقود، وليس بسنوات، وكذلك عبدالرحمن الشرقاوى فى (الشوارع الخلفية) وعلى مصطفى مشرفة فى (قنطرة الذى كفر) وأمين عز الدين فى (الفيلق)، وغيرهم من الذين عاشوا الحدث، ثم انتظروا سنوات أو عقودا عديدة حتى يكون الحدث قد فرض نفسه بقوة، وتعتبر «عودة الروح» لتوفيق الحكيم هى رائدة الأعمال الروائية التى عبرت عن فكرة وواقع الثورة، وكانت رواية «الحكيم» التى تأثر بها كثيرون وعلى رأسهم جمال عبدالناصر، ملهمة لأجيال وأجيال، وكانت الكلمات قوية وقادرة على بث روح الثورة فى وجدان الشعب، يقول الحكيم مقتبسا من عالم فرنسى: «بلد أتت فى فجر الإنسانية بمعجزة الهرم لن تعجز عن الإتيان بمعجزة أخرى، أو معجزات! بلد يزعمون أنها ميتة منذ قرون ولا يرون قلبها العظيم بارزا نحو السماء من بين رمال الجيزة! لقد صنعت مصر قلبها بيدها ليعيش الأبد!)، ويضيف: (فى شهر مارس، مبدأ الربيع، فصل الخلق والبعث والحياة، اخضرت الأشجار بورق جديد وحبلت وحملت أغصانه الأثمار.. كذلك مصر ايضا، قد حبلت وحملت فى بطنها مولودا هائلا، وها هى مصر التى نامت قرونا تنهض على أقدامها فى يوم واحد، إنها كانت تنتظر ابنها المعبود رمز آلامها وآمالها المدفونة يبعث من جديد، وبعث هذا المعبود من صلب الفلاح)، ويسرد ويحلل ويرصد الحكيم بواعث الثورة بكل تفاصيلها ومنحنياتها وانتصاراتها وبعض المعوقات التى كانت تعوق تقدمها، وإذا كان توفيق الحكيم ينظر للثورة باعتبار أنها تحقيق لحلم قديم عاشه المصريون الأوائل، وهو يقدم الجزء الثانى بفقرة من كتاب الموتى تقول: «انهض، انهض يا أوزوريس! أنا ولدك حوريس، جئت أعيد إليك الحياة، لم يزل فى قلبك الحقيقى، قلبك الماضى) ووضع عنوانا عاما على غلاف الرواية وهو «الكل فى واحد»، وللأسف حدث أن تم حذف كل هذه الحواشى المعبرة فى الطبعات التالية، عموما فإن كان توفيق الحكيم ينطلق من رؤية ترتبط بتحقيق الحلم المصرى القديم، فإن نجيب محفوظ اتسعت قماشته أكثر فتداخلت الأحداث السياسية والاجتماعية والفكرية بشكل كبير، فإن كان «محسن»فى «عودة الروح» هو المتحدث الرسمى «فنيا» باسم الثورة، فهناك كثيرون يمثلون الثورة فى ثلاثية نجيب محفوظ من أبناء المدينة، وكان الفلاح هو بطل ثورة 1919 فى رواية «الفيلق» عند أمين عزالدين، والبطل الازهرى عند على مشرفة.
إذن ثورة 1919 وجدت طريقها بقوة إلى الرواية، ولكن بعد وقت معين، ولكن الشعر لأنه كان فنا جماهيريا فلدينا تراث هائل ومجيد، وهناك تعبيرات فنية عديدة فى الثورات التالية، فثلاثية أحمد حسين التى بدأت بثورة 1919 وانتهت بحريق القاهرة، ترصد ثورات مصر فى تلك المرحلة من عين خاصة، وأعتقد أن المؤلف نفسه يضع أحداثا مرت به شخصيا اتصل بنا إلى حدود السيرة الروائية، وقراءة هذه الإبداعات ضرورة حتمية للتعرف على التاريخ الثورى لمصر، حتى نعرف أن المشهد، الذى تجلى فى مصر فى 27 نوفمبر، مشهد أصيل فى الذاكرة والحياة والإبداع المصرى.