الأسبوع الماضي شهد تجربة ثرية لكاتب هذه السطور، فقد دعيت مع كوكبة من أعضاء هيئات التدريس في بعض الجامعات الأمريكية الذين لهم خبرة في العمل الأكاديمي (درجة أستاذ مساعد فما فوق) لحضور ورشة عمل لمدة يومين عن السياسة العلمية لأمريكا وخاصة المتعلقة بتكنولوجيا الحاسبات: كيف تعمل وبما تتأثر وما هو دور الباحثين في توجيه دفتها، لذلك أردت أن أشارك القراء في بعض الدروس المستفادة من هذه التجربة، لكن قبل أن نتكلم عن تلك التجربة يجب أن نعرف ولو بتبسيط مخل ما هي السياسة العلمية لدولة ما، السياسة العلمية هي التي تقرر ما المجالات العلمية التي تركز عليها الدولة في الفترة الحالية وتمدها بالتمويل، إختيارهذه المجالات ما غالباً يعتمد على ما تريده الدولة بخصوص أمنها القومي والتكنولوجيا التي تتيح لها التفوق على الدول الأخرى وأيضاً المجالات التي تنتج تكنولوجيا تتيح للدولة الحصول على عوائد مالية كبيرة عن طريق ريادة الأعمال التي تصدر تلك التكنولوجيا وأخيراً وليس آخراً المجالات العلمية التي تتيح للدولة ولمؤسساتها العمل بطريقة أفضل وأسرع، بعد هذا التعريف البسيط لنرى الآن ما هي الدروس المستفادة من ورشة عمل كهذه تنظم كل عدة سنوات.
الدرس الأول هو لماذا الكوادر الأكاديمية هي فقط المدعوة على ورشة العمل هذه؟ ولماذا المخضرمين منهم وليس الأصغر سناً (درجة مدرس مثلاً)؟ الأستاذ الأكاديمي يؤثر في الأجيال القادمة وأيضاً يقوم بالبحث العلمي فهو مطلع على أحدث الأبحاث وإلا لم يكن ليترقى إلى درجات علمية أعلى من مدرس، سبب آخر مهم جداً هو أن الباحث الأكاديمي غير مكبل بقيود السياسة مثل السياسيين ولا قيود السوق مثل رجال الأعمال فيستطيع أن يأتي بأفكار طموحة، من المهم جداً للسياسيين الاستماع لتلك الأفكار الطموحة لأنه حتى وإن لم يتأتى تنفيذها في الوقت الحالي فإنها قد تكون بوصلة جيدة للبحث العلمي في المستقبل القريب أو المتوسط، أما لماذا تمت دعوة الأساتذة أعلى من مدرس فإنه حتى وإن تغاضينا عن عامل الخبرة فإن الأكاديميين على درجة مدرس في أمريكا عليهم التركيز على النشر العلمي والبحث عن تمويل لأجندتهم العلمية وإلا لن تتم ترقيتهم وسيكون لزاماً عليهم عليهم ترك الجامعة وهذا عكس النظام عندنا في مصر في الجامعات الحكومية حيث أن الأكاديمي قد يصل إلى سن المعاش وهو على درجة مدرس.
الدرس الثاني هو أهمية وجود فريق استشاري علمي للسياسيين، السياسي هو إداري في الأساس وليس متخصصاً في جميع فروع العلوم لذلك هو يحتاج أن يستشير المتخصصين في الأمور العلمية ليتمكن من إتخاذ قرار سياسي مثل هل يجب تحلية مياة البحار أم بناء سدود وخزانات أو هل يجب أن نفعل شيئاً تجاه الإحتباس الحراري أو هل يجب أن نهتم بالمباني صديقة البيئة أو السيارات ذاتية القيادة إلخ، الفريق الاستشاري العلمي للسياسيين مهم ومطلوب لبناء تلك الرؤية لدى السياسي.
الدرس الثالث هو أنك كأكاديمي أو متخصص في مجال ما فأنت استشاري حتى وإن لم تُعين رسمياً في فريق استشاري، هذا معناه أنه لو كان لك رأي علمي بخصوص موضوع ما فأرسله لمن يهمه الأمر من السياسيين وإجعل رأيك علمياً مركزاً وموجه لغير المتخصص، أنت بهذا تساعد بلدك حتى إن لم يأخذ السياسي برأيك ولكن هناك من قرأه وقد يتأثر به في المستقبل، أهم شيء ألا تفعل ذلك أملاً في منصب وشهرة وإلا وجدت نفسك ترسل الكثير من الآراء في هيئة تقارير وبعضها لا أهمية له ثم تغضب عندما لا تجد رداً على ما ترسله.
الدرس الرابع أن السياسة العلمية يجب ألا تكون دقيقة أكثر من اللازم، لأن هذا يجعلها قيد ويفقدها المرونة وبذلك ستصبح قديمة أو غير صالحة بعد مدة قصيرة من الزمن لأن العلم يتطور وعلاقات الدول في حراك مستمر.
الدرس الخامس أنك لن تُكَوِن نفسك مادياً في الحكومة حتى لو كنا نتكلم عن حكومة أمريكا، فقد قيل في هذا الاجتماع أنك لو دُعيت لإلقاء رأي علمي في الكونجرس مثلاً فتذكرة الطائرة أو القطار على حسابك! أنت تفعل ذلك من أجل مساعدة بلدك وليس من أجل التكسب لذلك فإن الكثير من المستشارين العلميين هم أصلاً أكاديميون يعملون في جامعاتهم ويأتون للحكومة لمدة محددة مثل أجازة لمدة سنة أو في زيارات قصيرة أو شيء من هذا القبيل.
الدرس السادس هو ألا تعد بما لا تستطيع تطبيقه فقط من أجل إسعاد أو إبهار السياسي الذي طلب استشارتك أو لتظل في منصبك الذي حتى وإن لم تتكسب منه فإنه يعطيك نوع من السلطة الأدبية، الطريق من الفكرة إلى التطبيق ليس سهلاً وكم من أفكار كبيرة تحطمت على صخور الواقع، لذلك عندما تقدم إقتراحاً ما يجب أن تكون ملماً بكل ما يحيط بتطبيقه من عراقيل أو عندما لا يتأتى ذلك فقدم الفكرة وإشرح ما تحتاجه تلك الفكرة لتصل إلى التطبيق وهذا ليس بالضرورة تمويل فقط.
قد نعود إلى تلك التجربة مرة أخرى لأن ما قيل حتى الآن هو غيض من فيض وهناك الكثير مما يمكن أن نستفيد منه.