أسفر ظهور فيروس كوفيد 19 وانتشار عدوى الإصابة به على نطاق واسع فى جميع أنحاء العالم منذ منتصف 2019، إلى حدوث حالة غير مسبوقة فى العالم من حالات الهلع والذعر نتيجة العدد الكبير من الإصابات المميتة التى سببها الفيروس، الأمر الذى اضطر الحكومات فى جميع أنحاء العالم إلى اتخاذ إجراءات وتدابير علاج ومقاومة واحتراز ضد انتشار هذا الفيروس، كانت إحداها هى الإغلاق الكامل والجزئى للعديد من المصالح والمنشآت والأنشطة والشركات والمصانع على مختلف الأصعدة والمجالات، ومن جهة أخرى تسببت إجراءات الحجز والعزل والتباعد الاجتماعى فى تراجع كبير للطلب العالمى على العديد من السلع والخدمات، وكان فى مقدمتها حركة نقل البضائع من الصادرات والواردات العالمية، وحركة نقل الركاب وحركة السياحة التى تأثرت سلبيا وبشدة من تلك التداعيات فى كل أنحاء العالم.
من جهة أخرى، واعتبارا لأن أعدادا كبيرة من البحارة وطواقم السفن وعمال الموانئ قد التقطوا عدوى كوفيد وتحوراته، فقد أصبحت الآلاف من السفن خاضعة للحجر الصحى، ومحتجزة فى الموانئ لفترات تعد طويلة نسبيا، مع تعويق وتباطؤ عمليات تغيير طواقم السفن فى الموانئ، الأمر الذى تسبب فى تراجع كبير فى عرض خدمات الشحن والنقل الدولى على مستوى العالم طوال الشهور التى بلغت فيها الأزمة ذروتها.
وفى مرحلة لاحقة وبعد أن تم ظهور أول حالة للمتحور دلتا وهو إحدى طفرات كوفيد فى الهند، انتقلت العدوى إلى الصين حيث تم اكتشاف أول حالة للمتحور دلتا فى ميناء جوانجزو الصينى فى مايو 2021، وعلى إثر ذلك أمرت السلطات الصينية بفرض الإغلاق والحجر الصحى وغيره من التدابير التى قيدت عمليات التشغيل فى هذا الميناء الذى يعتبر خامس أكبر ميناء على مستوى العالم من حيث حجم حركة الحاويات المتداولة، وبعد ذلك اتخذت إجراءات صحية واحترازية مماثلة فى غيره من الموانئ الصينية أسفرت عن تباطؤ حركة تداول البضائع والحاويات وترددات السفن على تلك الموانئ بصورة غير مسبوقة.
وقد أسفرت تلك الإجراءات على سبيل المثال فى أن زمن تشغيل السفن فى ميناء شينزن جنوب الصين، قد تزايد من 12 ساعة تقريبا فى الأحوال العادية إلى 16 يوما فى ذروة الأزمة، الأمر الذى تسبب فى تكدس البضائع والسفن فى الميناء وغيره من موانئ جنوب الصين مثل جوانجزو، يوننان، هونان، وهوباى، وغيرها.
وامتد الأمر نفسه إلى بقية الموانئ الصينية فى الشمال، الأمر الذى تسبب فى مشكلة مركبة على جميع الأصعدة بدءا من المصنعين والشاحنين مرورا بعمال الشحن والتفريغ، وحتى أطقم السفن وبحارتها.
وبسبب عدم قدرة العديد من الدول فى جنوب شرق آسيا وجنوب آسيا على إجراء عمليات التطعيم لجميع مواطنيها ومواطناتها، فقد تزايدت أعداد الإصابات فى تلك الدول ومدنها وموانيها، الأمر الذى أسفر عن قرارات حكومية بفرض الإغلاق الجزئى والكلى والحجر الصحى على العديد من المنشآت العاملة فى الموانئ ومحطات الحاويات فيها، مما انعكس فى تفاقم تداعيات الجائحة على الشحن والنقل البحرى العالمى.
من جانب آخر، تبين خلال الفترة الماضية إحجام نسبة كبيرة من عمال الشحن والنقل والأنشطة فى الموانئ الأوروبية عن الحصول على اللقاح المضاد للفيروس رغم إتاحته لهم من السلطات الصحية فى تلك الدول.
فى ذات الوقت الذى اتخذت فيه السلطات الحكومية والإدارات الطبية فى الموانئ البحرية إجراءات صارمة تمنع الأفراد غير الحاصلين على اللقاح من دخول الموانئ والمراكز اللوجيستية ومحطات التداول ومواقع التخزين، الأمر الذى وضع عائقا جديدا على حركة الشحن والنقل الدولى والتداول فى الموانئ الأوروبية، وتسبب فى العديد من مشاكل التكدس والاختناقات فى عمليات شحن وتفريغ ونقل البضائع من وإلى السفن، أضيفت إلى ما فرض على السفن وطواقمها من إجراءات وقائية واحترازية.
ويقدر أن تكاليف الشحن العالمية قد زادت فى تلك الفترة الحرجة لتصل إلى نسبة تتراوح من 15ــ 20% كنسبة من التكلفة الإجمالية للسلع والبضائع عقب تلك التطورات، بينما تشير تقديرات أخرى إلى أنها قد تصل إلى 40% فى بعض أنواع السلع والبضائع ذات مرونة الطلب المنخفضة.
•••
ومع اكتشاف المعامل والمؤسسات العلمية للقاحات المضادة لفيروس كوفيد وذيوع تنفيذ الإجراءات الاحترازية فى مواجهة تلك الجائحة، أخذت الحياة فى معظم دول العالم تعود تدريجيا لطبيعتها، وأخذت مستويات الطلب تعود بالتدريج نحو مستواها السابق ما قبل الأزمة، ومع العودة العالمية المتزامنة فى ذات الوقت تقريبا، أحدث ذلك زيادة عالمية هائلة فى الطلب على السلع والبضائع، لكن الملاحظ كان تضاعف الطلب فى الولايات المتحدة بفعل خطة التحفيز التى اتبعتها الحكومة الأمريكيةPlan Economic Stimulus وما تبعها من ضخ 1.9 تريليون دولار لتحفيز وإنعاش الاقتصاد الأمريكى، الأمر نفسه الذى قامت به الدول الأوروبية.
وبعد ركود الطلب لوقت طويل بفعل جائحة كوفيد، سعت السياسات الحكومية لتنشيط الاقتصاد فى العديد من الدول، وانعكس ذلك فى زيادة فى مستويات الدخول لقطاعات كبيرة فى تلك الدول، وهذه الزيادة تسببت بدورها فى مستويات عالية من زيادة الطلب بصورة مفاجئة على نطاق عالمى كبير، وهى زيادة فى الدخل والطلب لم تقابلها زيادة فى الإنتاج، بما نتج عنه ارتفاع كبير فى أسعار السلع وضغوط تضخمية شديدة.
•••
ومن جهة أخرى لم تتمكن شركات الشحن والنقل الدولى من زيادة العرض لمواجهة ذلك الطلب الهائل المفاجئ، ومع تجاوز الطلب للعرض ارتفعت أسعار الشحن والنقل الدولى، ودل على ذلك تضاعف مؤشر بورصة البلطيق فى لندن للشحن البحرى، ورصدت زيادة أسعار نقل الحاويات سعة 40 قدما عبر 12 خطا ملاحيا رئيسيا تعمل بين الشرق الأقصى والولايات المتحدة وأوروبا، لتصل إلى 7 آلاف دولار نولون نقل الحاوية من موانئ الصين إلى موانئ الساحل الغربى للولايات المتحدة، أما نولون نقل الحاوية إلى أوروبا فقد بلغ 10 آلاف دولار، وهو الأمر الذى ينطبق أيضا على الحاويات الواردة للمنطقة العربية ومصر.
وفى ظل تلك التطورات، قام المصدرون والمستوردون بتحميل تلك الزيادات فى نوالين الشحن والنقل على أسعار السلع والبضائع، الأمر الذى أحدث زيادات كبيرة فى أسعار المنتجات النهائية، وهى الزيادات التى ستقع فى النهاية على عاتق المستهلك النهائى، والتى أسفرت عن تولد موجة كبيرة من التضخم العالمى لا زالت مستمرة حتى تاريخ إعداد هذا التقرير.
ولا يتوقع لمستويات أسعار النوالين أن تعود لما كانت عليه قبل تلك الأزمة قبل انقضاء الربع الأول من العام القادم 2022، حيث تشير الإحصاءات إلى أنه فى الأشهر الخمسة الأولى من عام 2021 تم التعاقد على بناء سفن حاويات جديدة بقيمة 16.3 مليار دولار، فى مؤشر جيد على بدء تعافى الاقتصاد العالمى من تلك الأزمة.
لكن تلك التداعيات من جهة أخرى، أتت بنتائج تشغيلية قياسية مواتية لصالح الشركات الكبرى للنقل البحرى فى العالم، فقد حققت شركة MAERSK ما يقدر بحوالى 2.7 مليار دولار أرباح صافية فى الربع الأول من عام 2021 وهو يعادل 13 ضعف المتحقق خلال نفس الفترة من العام السابق، أما شركةCMAــCGM فقد حققت ما يزيد على 2 مليار دولار أرباح صافية فى الربع الأول من عام 2021، بما يعادل 40 ضعف المحقق فى ذات الفترة من العام السابق.
ومع اكتشاف اللقاحات ومحاولات السيطرة على الجائحة، أخذت الحكومات المختلفة فى التوجه لتقديم اللقاح للمواطنين والمواطنات والتوسع فى الإجراءات الوقائية، مع البدء التدريجى فى محاولة العودة التدريجية للأوضاع فيما قبل الجائحة، واتخاذ إجراءات حكومية وقرارات لإعادة تحريك عجلات الاقتصاد.
لقد كانت لأزمة كوفيد تداعيات سلبية على العالم بأسره، وعلى الاقتصادات المختلفة ومنها الاقتصاد المصرى، وكان للتدابير التى اتخذتها الحكومة المصرية أثر كبير فى تقليل تلك التداعيات واحتواء تأثيراتها بدرجة عالية من النجاح، الأمر الذى انعكس فى تجاوز الموانئ البحرية المصرية وقناة السويس تلك الأزمة بنجاح مماثل، عززه ما اتخذه القائمون عليها من إجراءات وتدابير.