من الحريق الأوكرانى إلى شرق أوسط يغلى على نار الحروب الإسرائيلية والتحولات الجيوسياسية الزلزالية، إلى أفريقيا وحروبها المنسية، إلى المحيطين الهادئ والهندى الزاخرين بتوترات إقليمية لا تأمن عاقبة التحول إلى نزاعات ساخنة، فماذا يمكن للعام 2025 أن يحمل معه لعالم تنهشه الفوضى ومخاض الانتقال إلى نظام عالمى جديد؟
عند نقطة التحول التى يشهدها العالم يعود الرئيس الأمريكى المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض فى 20 يناير حاملاً معه وعدا بإنهاء الحروب، وتعزيز آماله بالفوز بجائزة نوبل للسلام، فقط حتى لا يبقى باراك أوباما متقدما عليه فى هذا المجال.
لكن الوعود شىء والوفاء بها شىء آخر. وإذا كان الرئيس الأمريكى الحالى جو بايدن قد اكتفى بإدارة حربى أوكرانيا والحروب الإسرائيلية على غزة ولبنان ومؤخرا التوغلات الإسرائيلية فى سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، فإن ترامب لمّح أكثر من مرة بتفكير رومانسى إلى أن كل الحروب يجب أن تتوقف بمجرد عودته إلى البيت الأبيض. لا يُفصح ترامب كثيرا عن خطته لوقف الحرب الروسية - الأوكرانية، مع أنه يُلمّح إلى استعداده للقاء الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، فى سبيل التوصل إلى تسوية سياسية للنزاع الذى يقترب من عامه الثالث.
وقفْ الحرب هو تحدٍ كبير بالنسبة لترامب. وهو يملك ورقة المساعدات الأمريكية لأوكرانيا من أجل حمل الرئيس فولوديمير زيلينسكى على تليين شروطه للدخول فى مفاوضات مع فلاديمير بوتين. والعام 2025، يُعتبرُ عاما حاسما بالنسبة للحرب التى ستكون أمام خيارين: وقف النار والبحث عن تسوية دبلوماسية، أو اتساع رقعة النزاع ليتحول إلى مواجهة مباشرة بين روسيا وحلف شمال الأطلسى. كل مواقف ترامب توحى بأنه لا يريد التورط فى هكذا نزاع «يقود العالم وهو نائم»، بحسب رأيه، إلى حرب عالمية ثالثة.
• • •
يُواجه ترامب وضعا أكثر تعقيدا فى الشرق الأوسط. والسؤال الذى يطرح نفسه، هل سيكبح الرئيس الـ47 للولايات المتحدة جماح صديقه رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو كى يُخفّض التصعيد فى المنطقة، أم سيُطلق يده للذهاب أبعد فى تحقيق هدفه بـ«تغيير وجه الشرق الأوسط» بالنار، وصولاً إلى استهداف إيران؟
الأرجح أن يعمد ترامب إلى البناء على التوازنات الجديدة التى برزت نتيجة زلزال 7 أكتوبر 2023، وما تلاه من حروب إسرائيلية فكّكت «المحور» الإيرانى من غزة إلى لبنان وأخيرا بسقوط نظام بشار الأسد، وتولى «هيئة تحرير الشام» السلطة فى دمشق بدعم من تركيا.
الضعف الذى لحق بحلفاء طهران فى المنطقة والتراجع المستمر فى الاقتصاد الإيرانى، يُرجّح كفة التيار الإصلاحى ودعاة الانفتاح على الغرب. يطرح نائب الرئيس الإيرانى محمد جواد ظريف فى مقال نشره فى مجلة «الإيكونوميست»، بعد سقوط الأسد، مبادرة لإطلاق حوار «مودة» بين دول المنطقة بهدف «التطلع إلى المستقبل ودفن الماضى»، والعودة إلى الاتفاق النووى للعام 2015.
البراجماتية تفترض أن إيران فى وضعها الحالى هى أكثر ميلاً للذهاب إلى التفاوض، برغم وجود أصوات فى الداخل الإيرانى تدعوها إلى اعتماد «الخيار النووى» من أجل تشكيل قوة ردع فى مواجهة أية محاولة لزعزعة أركان النظام. وسيكون ترامب أمام خيار الدخول فى مفاوضات مع إيران ضعيفة، أو التسليم بنظرية نتنياهو التى تقول إن تغيير الشرق الأوسط لا يكتمل إلا بتوجيه ضربة عسكرية قوية لإيران تتسبب فى انهيار النظام هناك.
فى مواجهة هذين الخيارين، قد يُفضّل ترامب التفاوض فى ظل «العقوبات القصوى»، التى يُحتمل أن يعاود فرضها على طهران، وذلك من أجل التوصل إلى اتفاق نووى يُلبى شروطه، ويفرض على إيران أيضا قيودا على برنامجها الصاروخى الباليستى وما تبقى من نفوذها الإقليمى.
• • •
كيف سيُهدئ ترامب من روع نتنياهو؟ المعروف عن الرئيس الأمريكى المنتخب تأييده لـ«تكبير حجم إسرائيل» فى إشارة ضمنية إلى موافقته على ضم الدولة العبرية لنحو 40 فى المائة من الضفة الغربية، حيث تُقام الكتل الاستيطانية الكبرى. وقد تعود الإدارة الأمريكية إلى نفض الغبار عن «صفقة القرن» إبان ولايته الأولى، والتى تحدثت عن دولة فلسطينية مؤجلة على نحو 60 فى المائة من الضفة الغربية وقطاع غزة.
ومع رفض الائتلاف الحكومى والمعارضة الإسرائيلية أى حديث عن دولة فلسطينية، سيعمد ترامب إلى إقناع نتنياهو بالثمن الكبير الذى سيتقاضاه فى المقابل، ألا وهو التطبيع مع السعودية وإنشاء تحالف إقليمى ضد إيران.
• • •
فى موازاة ذلك، فرض الزلزال السورى على أجندة ترامب. والمعروف أنه ينتشر فى سوريا حاليا نحو ألفى جندى أمريكى فى سياق التحالف الدولى لمحاربة تنظيم «داعش». وإلى جانب هذه المهمة، أخذت القوات الأمريكية على عاتقها حماية «الإدارة الذاتية» للأكراد فى شمال شرق سوريا فى مواجهة النظام السورى السابق والتوغلات التركية.
وتعتبر واشنطن أن «قوات سوريا الديموقراطية» (قسد)، هى شريك لا غنى عنه فى محاربة «داعش». أما تركيا، فتنظر إلى «قسد» على أنها تنظيم إرهابى يتعين القضاء عليه واستئصاله كما هو الحال مع «داعش»، مما تسبب فى بروز اختلاف فى الموقفين الأمريكى والتركى.
ويجد أردوغان أن الفرصة مواتية الآن لاقتلاع «الكيان الكردى» من سوريا، ولا يبدو أنه سيتراجع عن التقدم نحو كوبانى (عين العرب)، للدفع بالمقاتلين الأكراد إلى شرق الفرات فى مرحلة أولى تسبق عودة ترامب، ومن ثم الدفع بالسلطات السورية الجديدة إلى استعادة السيطرة على حقول النفط فى دير الزور والرقة من الأكراد الذين يسيطرون فعلياً الآن على ثلث سوريا.
وقد تدفع أية محاولة تركية للسيطرة على المناطق الكردية إلى دخول سوريا فى دوامة عنف جديدة، وتؤجج التدخلات الإقليمية، بينما بدأت إسرائيل تُقدّم نفسها بوصفها حامية للأقليات فى سوريا. فهل يؤدى ذلك إلى صدام تركى -إسرائيلى؟ لا يُمكن إعطاء إجابة بنعم أو لا، فى حالة الاستقطاب القوى التى تعيشها الساحة السورية فى الوقت الحاضر، والاستعاضة بسؤال آخر حول ما هو الدور الذى يُمكن أن يلعبه ترامب للتوسط بين حليفين يتصارعان على أرض لا تخصهما فى الأساس.
وفى مواجهة هذه التطورات السورية، «تواجه إسرائيل معضلة وتقف أمام أحد الخيارين: إما معارضة الحكم الجديد فى سوريا أو التعامل معه بصفته «ذئبا فى ثياب حَمَل» يتبنّى أيديولوجيا إسلامية سنّية متطرفة ويرتدى قناعا مؤقتا للحصول على الشرعية الدولية.
نزعة ترامب الإمبريالية لم تعد الطموحات التوسعية حكرا على دول بعينها فى العالم. وترامب نفسه تبدّت عليه فى الأسابيع الأخيرة نزعات «إمبريالية» حيال حلفائه قبل الخصوم. فهو يضع كندا بين خيار أن تصير الولاية الأمريكية الـ51، أو أن تقبل بزيادة الرسوم الجمركية على صادراتها إلى الولايات المتحدة بنسبة 25 فى المائة. ويُهدّد ترامب باستعادة قناة بنما التى تخلت عنها أمريكا عام 1999، وحجته أن بنما «تنهب» الولايات المتحدة بسسب الرسوم التى تتقاضاها على السفن التجارية الأمريكية، فضلاً عن عدم رغبته فى رؤية الصين تسيطر على القناة، فى إشارة إلى الامتعاض من تحول بكين إلى الشريك التجارى الأول لأمريكا اللاتينية عوضا عن الولايات المتحدة.
• • •
يُخيف ترامب الحلفاء والخصوم على حد سواء، خصوصا أنه سيكون متحررا فى ولايته الثانية من كل الأشخاص «الراشدين» الذين أحاط نفسه بهم فى ولايته الأولى، بينما يعتمد الآن على فريق من الموالين له مائة فى المائة، وهؤلاء يشاركونه فى الكثير من آرائه الشعبوية من العداء للمهاجرين إلى سياسة «أمريكا أولاً» وبناء الجدران، واعتبار الصين هى العدو الاستراتيجى، وأن استعادة الولايات المتحدة لعظمتها، تمر عبر إخضاع الصين ولو أدى الأمر إلى حرب تجارية واسعة النطاق.
وعقيدة التركيز الأمريكى على الصين، تثير مخاوف من تحول التوترات فى تايوان وبحر الصين الجنوبى إلى احتكاك مباشر مع الصين، التى تُعزّز ترسانتها من الرءوس النووية وتعمل على تحديث جيشها البرى وبحريتها وسلاح المُسيّرات، مستفيدة من دروس الحرب الأوكرانية. فى ظل هذا الكم الهائل من النزاعات والتوترات التى يشهدها العالم، هل يستطيع ترامب الوفاء بوعده بإنهاء الحروب فى ولايته الثانية؟
سميح صعب
موقع 180
النص الأصلى:
https://tinyurl.com/3xjp838f