مجلس الشعب يبدأ عمله فى ظروف صعبة للغاية: توقعات هائلة، وعدم وضوح رؤية عن الوضع الدستورى، ووضع أمنى واقتصادى صعب، وخلاف فى المجتمع حول ما إذا كان هذا المجلس أصلا سيستمر وما إذا كانت له شرعية كاملة، أم أنه مجرد كيان مؤقت لن يصمد طويلا أمام رغبة الجماهير فى تغييرات أكثر جذرية. فى وسط هذا الوضع المضطرب، فإن قضية التوافق والتنافس داخل المجلس تكتسب أهمية كبيرة ويلزم التوقف عندها، كما أنها تعبر عن إشكالية أكبر فى المجتمع كله حول ما يمكن التوافق عليه وما يجب أن يكون محلا للتنافس.
الحديث عن ضرورة الوصول إلى توافق مجتمعى لم يتوقف منذ نجاح الثورة فى اسقاط رءوس النظام السابق. لجان ومؤتمرات الوفاق الوطنى، ثم الحوار الوطنى، والمجالس الاستشارية بمختلف أنواعها، ووثيقة الأزهر، ومن قبلها وثيقة السلمى، كل هذه محاولات لم تنجح (ربما باستثناء وثيقة الأزهر) فى أن تحقق هدفها، وهو التوصل لتوافق وإجماع وطنى حول الدستور، ولجنته التأسيسية، وهوية الدولة، وتقريبا كل شىء تم تناوله من خلالها، فانتهت اللجان بالاستقالات أو الحل، والمؤتمرات بمعارك طاحنة، والوثائق بالنسيان والاهمال، بل لعل هذه المحاولات «التوافقية» كانت فى نهاية الأمر بمثابة الفتيل الذى أشعل نارا وبارودا كامنا وساعد على تأجيج الخلاف.
ما سبب فشل هذه المحاولات التوافقية؟ فى تقديرى أن السبب الرئيسى هو إشكالية التوافق ذاتها والولع باللجوء إليه بينما التنافس هو المطلوب وهو الوسيلة الطبيعية للتقدم. فالتوافق أصلا كلمة غريبة، توحى بأن المجتمع يمكنه بشكل ما ــ من خلال ممثلين له غير منتخبين ــ أن يجلس فى غرفة واحدة، ويتفق على المستقبل وعلى شكل الدولة وعلى هويتها، وأن الحاضرين فى هذه الغرفة سوف يخرجون فى نهاية جلسات طويلة وشاقة ليعلنوا للناس أن كل الخلافات قد تم حلها، وأن الاتفاق على كل شىء قد تحقق. هذا تصور مستحيل أصلا وغير قابل للتحقق، كما أنه غير مطلوب من البداية لأن المجتمع يتقدم حينما تتنافس فيه الأفكار والرؤى، فينتصر بعضها ويتراجع البعض الآخر، وحينما يكون هذا الصراع بين الأفكار واضحا وصريحا ومعلنا، بل ومحل مشاركة المجتمع كله.
لماذا لا ننسى موضوع التوافق إذن وننتقل إلى فكرة ثانية ومغايرة تماما، وهى البحث ليس عن الاتفاق والاجماع، وإنما عن كيفية تنظيم التنافس والاختلاف والصراع بحيث تأتى النتائج معبرة عما ترتضيه الأغلبية ولكن دون اهمال دور وحقوق الأقلية؟ والبرلمان خير مثال على ذلك. الحديث عن توافق داخل مجلس نيابى منتخب من الشعب أمر غير معقول وفيه تناقض داخلى. الناس لم تنتخب فريقا قوميا يلعب المباراة مرتديا لباسا واحدا، بل اختارت فرقا لكى تتنافس ولكى تتصارع ولكى يكون خلافها لمصلحة المجتمع والشعب. والمصلحة العامة تقتضى أن يكون التنافس حقيقيا ومستمرا بين التيارات والأحزاب السياسية، لا أن تتكرر محاولات حسم كل خلاف عن طريق المفاوضات فى غرف مغلقة. لذلك فلا أفهم أهمية أن يكون اختيار رئيس مجلس الشعب ووكيليه بالتوافق، بل الصحيح أن يكون بالتنافس (وهو ما حدث بالفعل ويعطى للفائز قيمة ومكانة أكبر من حصوله على موقعه بالاجماع أو بالتزكية)، ولا أرى أهمية أن يكون اختيار رؤساء لجان المجلس بالاتفاق والتفاوض بين الأحزاب، بل ينبغى أن يكون محل صراع وأن تأتى نتيجته معبرة عن توزيع القوى فى المجلس، ولا أتفق مع فكرة أن يسعى المجلس لتحقيق توافق فى المجتمع بينما دوره تحديدا أن يكون ساحة شريفة للتصادم والصراع والمنافسة على الأفكار وعلى المصالح الاجتماعية (وليس الشخصية) وعلى رؤى متباينة فى كل موضوع تقريبا.
الإشكالية الحقيقية هى كيف يمكن الحفاظ على حقوق الأقلية السياسية والاجتماعية من طغيان الأغلبية العددية فى لحظة تاريخية معينة. وهذا بالتحديد ما أقترح أن يتم حله ليس عن طريق سراب التوافق الذى لن يتحقق أبدا إلا من خلال صفقات مشبوهة، بل عن طريق وضع قواعد اللعبة بما يحفظ حق الأقلية فى التعبير، وفى المشاركة، وفى الاعتراض، وفى التعديل، وفى أن تكون حقوقها مصونة. والضمان الآخر لعدم طغيان رأى الأغلبية هو ألا ينعزل مجلس الشعب (أو أى مجلس آخر منتخب) عن الشعب الذى اختاره، ولا يتصور أنه أصبح مصدر الشرعية فى البلد، لأن الشرعية مصدرها الناس وليس المجلس، وبالتالى يظل معبرا طوال الوقت عن الشارع، وعن الميادين، وعن القرى، وعن الحضر، ويظل منصتا لهم ومستجيبا لرغباتهم. المجتمع الواسع بطبيعته أكثر توافقا واعتدالا من القوى السياسية التى تزعم أنها تمثله، والرجوع للناس هو ما يكبح طغيان الأغلبية على الأقلية.
دعونا ننسى التوافق الذى لا يعنى فى نهاية الأمر إلا أن يتم تحديد مقدرات الأمة بناء على صفقات بين رؤساء الأحزاب ومفاوضيهم، ولنجرب قليلا التنافس. وليكن مجلس الشعب الجديد فرصة للتخلص من الخوف من أن تؤدى المنافسة إلى نتائج وخيمة وعواقب غير محمودة، فلا سبيل للتقدم سوى النزول إلى الملعب والاشتراك فى المباراة. أما الجلوس فى غرفة مغلقة والتفاوض حول نتيجتها فلن يحقق سوى نتيجة مزورة.