لم تكن ظاهرة تصاعد السلطوية تشغل بال الأكاديميين قبل عقد واحد من الزمان، كان الاعتقاد السائد أن النظم الديموقراطية فى تصاعد طردى منذ انهيار الاتحاد السوفيتى وانهيار نظم الحكم العسكرية فى أمريكا اللاتينية، لكن ومع انتهاء العقد الأول من الألفية الجديدة بدأت ظاهرة تصاعد السلطوية تلفت نظر الباحثين بشدة، وبدأت المزيد من الأبحاث توجه إلى دراستها ليست بوصفها هامشا سينهار يوما ما كما كان الاعتقاد الأكاديمى طوال التسعينيات وبداية الألفية ولكن باعتبارها ظاهرة تستحق الدراسة والتحليل.
لم تقدم الكثير من الجامعات الغربية على تخصيص مواد دراسية لدراسة النظم السياسية السلطوية، رغم أن القليل قد فعل فى مرحلة الدراسات العليا، حتى وقت قريب حين بدأ عدد كبير من أساتذة العلاقات الدولية والنظم السياسية تدريس النظم السلطوية كجزء من مقررات تدريس مرحلة البكالوريوس فى العلوم والنظم السياسية مدفوعين بعدد كبير من الكتب الدراسية oksText Bo التى بدأت تخصيص فصول كاملة عن تلك الظاهرة، ولعل أهم هذه الكتب على الإطلاق كتاب «السياسات المقارنة» الصادر عن دار نشر جامعة أوكسفورد فى أكثر من طبعة آخرها صدرت فى العام ٢٠١٧ وقام بتحريره أستاذ العلوم السياسية الإيطالى والذى يعمل حاليا فى جامعة زيورخ «دانييل كارامانى» مجمعا كتابات أكثر من ٢٠ أستاذا للنظم السياسية تناولوا جوانب مختلفة للنظم السياسية ومن ضمنها تصاعد السلطويات عالميا.
***
فى الفترة بين ٢٠١١ و٢٠١٤ قمت أيضا بتدريس النظم السياسية المقارنة فى جامعتى القاهرة والأمريكية، ولكن كان جل تركيزى على الظاهرة الديموقراطية الغربية وكنت أسير تدريس النظم الغربية التقليدية (الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا، وألمانيا)، ولكن ومنذ العام ٢٠١٥ حينما قدمت إلى جامعة دنفر كأستاذ مساعد زائر فقد بدأت فى رؤية الأمور بشكل مختلف، فقمت بتدريس النظم السياسية المقارنة بالإضافة إلى بعض المواد الدراسية المرتبطة بها كالعلاقات المدنية العسكرية ودراسات المناطق المقارنة (الآسيوية والشرق أوسطية)، بالإضافة لمواد التنمية السياسية والاقتصادية لأكتشف كما اكتشف طلابى عالما جديدا من النظم السياسية ذات المنطق والأولويات والآليات المختلفة.
فى قاعات الدراسة تعلمت مع طلابى (والغالبية العظمى منهم أمريكان ينتمون للطبقات المتوسطة وما فوقها) أن النظم السياسية أكثر تنوعا مما كنت أعتقد! اكتشفت مع طلابى أن هناك على الأقل سبعة أنواع من النظم السياسية تتراوح بين الديموقراطيات الليبرالية والسلطويات الكاملة، اكتشفنا أيضا أن هذه التنويعات السياسية تتغير عبر الزمن فى نفس الدولة.
النوع الأول من هذه النظم هى الديموقراطيات الليبرالية الخالصة، والتى تعتمد على دساتير (عادة مختصرة ولكنها حاسمة) ونظام سياسى حزبى تعددى وعلاقات شديدة التعقيد بين المؤسسات السياسية التشريعية والتنفيذية والبيروقراطية بالإضافة إلى القضائية بحيث أن كلا منها يقدر على تعطيل الآخر بشكل تبادلى مما يسمح بعملية التوازن والرقابة وعملية تدوير كاملة للنخب السياسية بحيث أن القدرة على الصعود إلى النخبة وعملية الخروج منها تتمتع بالسرعة الشديدة. الأمثلة الأوضح لهذا النوع من النظم يوجد مثلا فى الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وكندا.
بينما يأتى النوع الثانى لينتمى اسما إلى النوع الأول (الديموقراطيات الليبرالية) ولكنه يختلف من حيث المضمون فى بعض الملامح، فإما إن هذه التعددية الحزبية مقيدة (واقعيا وليس قانونيا) وبالتالى فعملية تدوير النخب السياسية ضعيفة للغاية (اليابان والهند مثلا)، أو أن الأطر الحزبية شديدة السيولة والتغيير عبر الزمن (فرنسا وكوريا الجنوبية مثلا)، تقترب هذه النظم من النوع الأول من حيث المؤسسات ولكن آليات المناورة السياسية تختلف كليا إما بسبب هذا التقييد أو بسبب هذه السيولة.
أما النوع الثالث من هذه النظم فهو يتشابه مؤسسيا مع النظم الغربية الديموقراطية من حيث وجود دستور وأحزاب سياسية وبرلمان وانتخابات حرة ونزيهة ولكنه يفتقد فى الكثير من الأحيان للبعد الليبرالى السياسى فتوجد بعض (وأحيانا العديد) من القيود على حريات الرأى والتعبير والتنظيم تأثرا بالثقافة السياسية السائدة، كما أن دور المؤسسات الدينية هنا أوضح بكثير من النظامين السابقين. تأتى العديد من الأنظمة المنتمية لشرق ووسط أوروبا بالإضافة إلى أمريكا اللاتينية فى هذا النوع.
النوع الرابع هو ما يسميه البعض النظم الهجينة أى إنها تمتلك الحد المؤسسى الأدنى اللازم لاعتبارها «ديموقراطيات انتخابية» بمعنى وجود آلية انتخابية منتظمة لتبادل السلطة ولكن مع وجود تعددية مقيدة وتدوير بطىء للغاية للنخب السياسية مع ارتفاع معدلات الفقر وسوء توزيع الموارد بالإضافة إلى زيادة المكونات الأمنية والعسكرية فى عملية صنع القرارات السياسية، وتمثل الدول الإفريقية وبعض دول الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا التى تحولت إلى الديموقراطية خلال العقود الثلاثة الأخيرة الغالبية العظمى من هذا النوع.
بينما يأتى النوع الخامس ليعبر صراحة عن النظم السلطوية المؤسسية، أى تلك النظم التى تمتلك مؤسسات سياسية كالأحزاب والبرلمانات ولكنها لا تقوم بتدوير السلطة بشكل ديموقراطى إما لوجود حزب واحد فقط يهمين أو يسيطر على السلطة (كحالة الصين أو مصر وسوريا قبل ٢٠١١ أو العراق قبل ٢٠٠٣..إلخ) أو لوجود تعددية حزبية وسياسية ولكنها محكومة بنظام ثيوقراطى (دينى) كالحالة الإيرانية. هذه النظم يصفها البعض بالسلطويات التشاركية ويقول عنها البعض الآخر إنها سلطويات رشيدة أو منتجة...إلخ.
ثم يأتى النوع السادس ليمثل السلطويات غير المؤسسية (غير الرشيدة)، أى تلك التى تعتمد على عصبيات وقبليات مسيطرة لا يتم تداول السلطة إلا فى داخلها ولا تمتلك أحزابا سياسية ولا برلمانات منتخبة ولا توجد فيها أدنى درجات المحاسبة أو الشفافية أو المؤسسية. وتمثل دول الخليج العربى نموذجا لهذا النوع.
ثم يأتى النوع الأخير من النظم السياسية ليمثل السلطويات المشخصنة التى لا توجد فيها أدنى درجات المؤسسية ولا تعمل وفقا لأى آلية انتخابية حتى ولو صورية وتستمد شرعيتها بالأساس من الزعامات الفردية وتمثل هذا النوع نظم مثل كوريا الشمالية أو ليبيا وقت القذافى.. إلخ.
***
منذ عامين بالضبط صار نقاش بين أحد طلابى من إحدى الدول العربية الخليجية وبين زميلته الأمريكية حول الديموقراطية فى دول الخليج العربى، بينما انتقدت الطالبة الأمريكية الدول الخليجية لأنها تنتمى إلى السلطويات غير المؤسسية، فإن الطالب الخليجى قد رد عليها بأنه «سعيد» فلماذا يقوم بثورة على نظام سياسى يوفر له الحياة الكريمة؟ ولما تحدثت الطالبة عن انتهاكات تتعرض لها الوفادة العاملة فى بلده، فإنه رد عليها بعشرات الشركات الأمريكية التى تفعل الشىء نفسه مع العمالة الوافدة من دول جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية! فى هذا الوقت كان انحياز الطلاب واضحا نحو النظم السياسية الديموقراطية (الليبرالية)، وفى فصل دراسى لاحق فقد صار النقاش ذاته بين طالب أمريكى من هونج كونج وآخر من الصين وبنفس الطريقة كان يرى الطالب الصينى أن دولته عظيمة ولا يلزمها اتباع النموذج الغربى لأن تراتبية قيم الأخيرة مختلفة عن الحضارة الصينية، وبنفس الطريقة فقد انحاز معظم الطلاب للنموذج الغربى!
أما الآن وبعد مرور عامين تقريبا على هذه النقاشات فقد صار الجدل مجددا بين طلابى وفى هذه المرة رأيت فروقا واضحة، فقد أجاب تسعة من أصل ٣٠ طالبا حضروا محاضرتى الأسبوع الماضى على سؤال هل تفضل العيش فى بلد ديموقراطى تعيش فيه فى مصاعب اقتصادية على بلد سلطوى تتمتع فيه بحياة كريمة؟ بالنفى، أى إنهم يفضلون العيش فى نظم سلطوية لطالما جعلتهم فى أوضاع معيشية أفضل!
***
صحيح أن الجدل بين طلابى (ومعظمهم بين ال ١٨ و٢٢ عاما) ما زال يميل لكفة النموذج الديموقراطى الليبرالى الغربى، لكن نسبة الثلث تعبر عن اتجاه جديد يتحدث عن تراتبية الحاجات الإنسانية أولا، فالإنسان يحتاج للأكل والشرب قبل احتياجه للحرية! هذا ما قاله ثلث الطلاب داخل القاعات الدراسية وهذا ما فعلته بأشكال متنوعة النظم السلطوية منذ انهيار الاتحاد السوفيتى، فيما تخلت عنه النظم الليبرالية الديموقراطية تدريجيا فى نفس الفترة الزمنية، فما هى الأسس الاقتصادية والأخلاقية والسياسية التى اعتمدت عليها النظم السلطوية فى صعودها أخيرا؟ هذا ما أحاول الإجابة عليه فى مقالة قادمة.
الاقتباس
فى قاعات الدراسة تعلمت مع طلابى (والغالبية العظمى منهم أمريكان ينتمون للطبقات المتوسطة وما فوقها) أن النظم السياسية أكثر تنوعا مما كنت أعتقد! اكتشفت مع طلابى أن هناك على الأقل سبعة أنواع من النظم السياسية تتراوح بين الديموقراطيات الليبرالية والسلطويات الكاملة، اكتشفنا أيضا أن هذه التنويعات السياسية تتغير عبر الزمن فى نفس الدولة
مدرس النظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة وأستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر.