نشرت جريدة الخليج الإماراتية مقالا للكاتب عبدالحسين شعبان تناول فيه العدالة الاجتماعية وما يمكن أن تتناوله من أبعاد جديدة فى ظل العصر الرقمى والاقتصاد القائم على التقنيات الجديدة والتكنولوجيا... نعرض منه ما يلى.
بالرغم من الظروف الصحية والاقتصادية العصيبة التى يمرّ بها العالم بسبب اجتياح وباء «كورونا»، احتفل المجتمع الدولى باليوم العالمى للعدالة الاجتماعية، كأنّه يريد التخفيف عن الحزن والمأساة التى شهدتها بلدان العالم جميع، واختارت الأمم المتحدة شعارا يجمع العدالة الاجتماعية بالاقتصاد الرقمى، خصوصا فى ظلّ الطور الخامس للثورة الصناعية الذى يشهد نموا هائلا ومتسارعا للعلوم والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعى، إضافة إلى تكنولوجيا المعلومات والإعلام ووسائل الاتصال، بما فيها الطفرة الرقمية «الديجيتال»، وقد فرضت تلك الأوضاع ضرورة الاعتماد على ترتيبات العمل عن بُعد، ما سمح بممارسة بعض الأعمال الاقتصادية والتجارية، بما لها علاقة بالاقتصاد الرقمى، الذى من تأثيراته الإيجابية إتاحة الفرص المتكافئة للنساء والأشخاص ذوى الإعاقة والشباب والعمّال المهاجرين للانخراط فى سوق العمل، كجزء من التطور الحاصل على الرغم من التأثيرات السلبية لوباء كورونا، والانكماش الذى حصل على الصعيد العالمى.
لقد ظلّت العدالة الاجتماعية هاجسا للعديد من الحركات الاجتماعية المطالبة بالمساواة ومنع التمييز، مثلما كانت، ولا تزال نقطة مطروحة على جدول أعمال العديد من القوى والتيّارات السياسية والاجتماعية، وبقدر ما كانت محلّ صراع طبقى حاد فى العديد من المجتمعات، خصوصا المتطوّرة، فإنّها فى الوقت نفسه كانت مصدر جدلٍ واختلافٍ وتباينٍ فى المنظمات الدوليّة أيضا، وقد أعلنت الجمعيّة العامة للأمم المتّحدة فى 26 نوفمبر 2007 اعتبار يوم 20 فبراير من كل عام يوما عالميا للعدالة الاجتماعية، وقد دعّم هذا التوجّه اعتماد منظمة العمل الدوليّة «إعلان العدالة الاجتماعية» للوصول إلى «عولمة عادلة»، فى يونيو 2008، استنادا إلى مؤتمر العمل الدولى الذى أكّد المبادئ والسياسات الرئيسيّة التى تعتمدها المنظمة منذ صدور دستورها فى عام 1919.
وكان إعلان فيلاديفيا عام 1944 وعشيّة تأسيس الأمم المتحدة العام 1945 أكّد أيضا إعلان المبادئ والحقوق الأساسية فى العمل الذى اعتُمد عام 1998، وقد أيّدت هذا الإعلان 182 دولة من الدول الأعضاء، حيث يبرز موضوع العدالة الاجتماعية ويضع برنامج العمل الذى يسعى لتقديم بُعد اجتماعى للعولمة، بحيث تنسحب نتائجه على تحقيق قيم العدالة للجميع، وإن كان الأمر بحدّه الأدنى والممكن.
وحسب التقارير الدولية التى تنشرها منظمة العمل الدولية فإنّ أكثر من 60% من العمال فى العالم يفتقدون أى نوع من عقود العمل، وبالتالى إلى ضمانات قانونية، فضلا عن أن نسبة العمّال بدوام كامل هى أقلّ من 45% من إجمال عدد عمّال العالم، وهى نسبة انخفضت فى السنوات الأخيرة، وشهدت انخفاضا شديدا خلال استمرار جائحة كورونا.
جدير بالذكر أنّ العدالة الاجتماعيّة هى قيمة إنسانية عليا وحق إنسانى واجب الأداء، وهى ركن أساسى من أركان المواطنة التى تقوم على الحريّة والمساواة وعدم التمييز والشراكة والمشاركة، فالمواطنة من دون العدالة ستكون ناقصة ومبتورة، إن لم تكن مشوّهة، ولا تستقيم مع فقدان العدالة الاجتماعية، وكيف يمكن تحقيق المساواة والشراكة مع الفقر، وهل يستوى الذين يملكون والذين لا يملكون؟ واستنادا إلى الآية القرآنية الكريمة «قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون» (سورة الزمر)، باختصار، فالعدالة الاجتماعية ليست منّة، أو هديّة، أو هِبة من الحكّام أو أرباب العمل، الأمر الذى يحتاج إلى المزيد من الكفاح على جميع الصعد لتحقيقها.
إنّ من شأن العدالة الاجتماعية أن تأخذ بُعدا جديدا فى ظل العصر الرقمى والاقتصاد الجديد القائم على التقنيات الجديدة والتكنولوجيات التى أخذت تخترق مختلف قطاعات الاقتصاد لتحقيق التنمية المستدامة، وتقليص مستويات الفقر والتفاوت الطبقى وتوفير العمل المناسب للجنسين من دون تمييز، وصولا للرفاه الاجتماعى بتعزيز العدالة الاجتماعية للجميع، والأمر يحتاج إلى إعادة نظر بنظام العلاقات الدولية وعلاقات الشمال الغنى مع الجنوب الفقير لسد الفجوة الرقمية وإتاحة فرص عمل مناسبة للبلدان الفقيرة، والاهتمام بتوفير التقنيات الحديثة كيما تكون الأداة فاعلة لمواجهة تحديات العصر، خصوصا بإعادة النظر بالقوانين والأنظمة ومنع الانتهاكات والخروق لمبادئ المساواة، سواءً فى الأجور واحترام الاتفاقيات والمعاهدات الدولية بهذا الخصوص، إذْ لا يمكن تحقيق التقدّم المطلوب فى الاقتصاد الرقمى على المستوى العالمى من دون تقليص الفوارق فى ما يتعلّق بالعدالة الاجتماعية، وهو ما ينبغى أن تدركه القوى النافذة فى العلاقات الدولية، وعلى صعيد كلِّ بلدٍ وهو ما أظهرته جائحة كورونا من تأثيرات سلبية على الصعيد الاقتصادى والاجتماعى والنفسى لأوساطٍ واسعة من سكان العالم لا تزال مستمرّة.