قامُوس المُخادعين - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 10:55 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قامُوس المُخادعين

نشر فى : الجمعة 31 مايو 2024 - 6:55 م | آخر تحديث : الجمعة 31 مايو 2024 - 6:59 م

 لم أكُن في مَوقف يدفعني لاختبارِ المُغلَّف الصَّغير ذي الورقتينالخضراء والمُفضَّضة؛ والذي يحوي قطعًا في حجم عقلة الأصبع منمًستحلَب النعناع. أفضله على غيرِه رغم أنه قديمٌ، وأن أنواعًا كثيرةأحدث ظهرت على مدار السنين. هو الاعتياد والتشبُّث بكلِ بسيطٍ لاتكلُّف فيه. لما وَصَلت إلى البيت فَضَضت جزءًا من الورقة وإذا بالثمانيقطع قد اختُصِرَت لثلاث. لم يتغيَّر ثمنه كغيرِه من الحلوى؛ لكن محتواهانخفضَ لأقل مِن النِصف. دهشت فقرَّرت شراءَه مرةً أخرى؛ لأجده علىالحالِ ذاتها. مؤخرًا اختفى النعناع، ولما سألت البائعَ قال إن مُحبيهاعترضوا على ما عدُّوه خداعًا سخيفًا مِن الشركة المُنتِجة، وكفّوا عنطلبه. 

• • •

تقول قواميسُ اللغةِ العربيةِ أن الفعلَ خَدَعَ يأتي بمعنى راوغ واستتر. الخادع فاعلٌ والمَخدوع مفعولٌ به، والمصدر خِداع وخديعة، وإذا قيلخدعته الشهرة فقد استمالته إليها، أما إذا خَدَعت الأسعار فقد عَلتوارتفعت. 

• • •

الخداع مُناورةٌ ناجحة؛ يقوم المَرءُ فيها بنسج ثوبٍ مُحكَم من خيوطالكَذب والمُبالغة، يلوي عنق الحقيقةِ ويكيِّفها لتصبح بحجم الخدعة؛ لاضيقة ولا مُترهِّلة. يُقال إن الحَربَ خُدعةٌ.

• • •

يخدع المُنافقُ من يتزلَّف إليه، يُوهمه بأن ليس على الأرضِ مَن هو أحكممنه وأعظم، وأن فِعلَه هو الصَّوابُ وقولَه هو الحقُّ، وتلك خطواتٌ تقودلبناءِ إله؛ لا يتشاور مع أحد، ولا يستمع لأحد، ويرى الآخرين صغارًاحقراء؛ لا استحقاقات لهم ولا أهميَّة لوجودِهم.

• • •

يُؤمن البعضُ بأن للخداع والكَّذب أحجامًا تؤخذ في الحسبان؛ فخدعةٌأو كذبةٌ صغيرة، لا تماثل عند تقييم صاحبِها أخرى كبيرة. ربمايتغاضى الناسُ عن الأولى ويُمرِّرونها؛ لكنهم يقفون أمام الثانيةمُستاءين عاجبين؛ والحقُّ أن الكَّذبَ كلَّه واحدٌ والخِداعَ أيضًا، والقادرعلى مُمارسة أصغر الرذائل؛ يرتكب بمرور الوقتِ أعظمَها.

• • •

إذا لفَّ المرءَ التعبُ وأرهقت الأحداثُ يومَه وشعر بالرضاءِ عما أنجز؛آوى إلى مَخدعه ووضع رأسَه على وسادته وراح في نوم عميق. تأتيكلمةُ المَخدع في المَعاجم على أنها مكانٌ صغير للنوم؛ لكنها قد تحملصلةً وإن غير مباشرة بفعل الخداع؛ فالمخدوع مُطمئِنٌ مُسترخٍ، لا يفكرفي احتمالات سيئة ولا يكابد سوءَ الظنّ، وعلى هذا المنوال يُفترَض أنتكون الحالُ؛ ما لاذ المرءُ بفراشِه وسَكَن إليه.

• • •

قدَّم العظيمُ توفيق صالح فيلم "المخدوعون" في مطلع السبعينيات، عنقصة غسان كنفاني "رجال في الشمس"، ويحكي عن رجالٍ ثلاثة؛يغادرون موطنهم بعد نكبة العام ثمانية وأربعين؛ باحثين عن واقع أفضلفي إحدى دول الخليج، ويُقال إن إنتاج الفيلم تعثَّر في مصر ونجح فيسوريا وحاز جوائز عدة.

• • •

تتعلق ظاهرة السَّراب بانحراف أشعةِ الشَّمس عند مرورها في طبقاتهواء مُتباينة الحرارة، بما يوهم الناظر بصور كالماء والأشجار؛ فما أنيقترب حتى يدرك زيفَ رؤيته ومَبلغَ خديعته. لا يُهم حضور الضَّوء فيبعض المرات؛ كي يرى الواحد منا ما ليس موجودًا؛ بل أن الإظلام قديُسهِم بدورٍ أكبر في أن ترسمَ المُخيِّلة داخلها سرابًا هائلًا، وتعامِلهكحقيقةٍ لا مراء فيها.

• • •

شغف كثير الناسِ بمتابعة دافيد كوبرفيلد، وصدَّقوا في خدعه وألاعيبه. هو السَّاحر الأمريكيّ الأشهر صاحبُ الحيلةُ الواسعة، القادر علىاجتذاب الجماهير وتركها مَفغورةَ الأفواهِ مَخلوبةَ العقول. يُوظِّف السَّحرةُأدواتِ العِلم والإيحاء؛ فبعض ما يُعرَض أمام الجمهور تفسره قواعدالفيزياء والحساب، بينما يتكفل عامل الانبهار بتحقيق الإقناع التام؛ولإن فقدَ المُتفرِّج افتتانَه بالسَّاحر لحظة، واستردَّ يقظته؛ ما انطلت عليهالخدعة.

• • •

قال بن الرومي: "تحسَبنَّك خدعتهن بخُدعَةٍ.. بل أنت وَيحك خادعتكمُناكا"، والمُعادل العامي لهذا البيت يكاد يكون: "تجي تصيدهيصيدك"؛ فقد يغتَّر الواحدُ بذكائه وحصافته، ثم يكتشِف كم كان عاميًاعن رؤية الواقع، قاصرًا عن إدراك مَوضعِه من الآخر.

• • •

التَّخديعةُ طريقةٌ لطهو بعض أنواعِ الخُضروات والبقول؛ تعتمد علىإضافةِ طماطم مَفرومة وزيت وبَصل تام النضج، ويُقال عن الطعامالمَطبوخ حينها أنه "مسبك". على كل حال لا يُعرَف على وجه الدِّقة سببُالتَّسميةِ العجيبة؛ ربما أنها تغير من طبيعة المُكوِّن الرئيس وتُخادعالآكلين وتضفي على ما يُخلَط بها مذاقًا شهيًا ومثيرًا. 

• • •

المُخادِع ماكرٌ وبعضُ الماكرين يَصعُب كشفهم إلا بعد مرور وقت؛ إذالتخفّي صِفةٌ تلازمهم. مرات يكون المخدوع على درجة من السذاجةتطيل فترة خداعه، ومرات أخرى يتحرَّج من الاعتراف بما وقع فيهويختار عدم المواجهة؛ لتبقى الخديعة قائمة مُستمرَّة.

• • •

سمعت كثيرًا من جَدَّتي المثلَ الشعبيّ: "اللي تحسبه موسى يطلعفرعون"، والقصد أن المظاهر خادعةٌ بينما البواطن في أغلبِ الأحيانصادقة، وما يُرى من بعيد على هيئةٍ برَّاقة جميلة، قد يحوي قلبُه السُّوسويَنخر فيه المَرض.

• • •

ربما يتعرَّض المَرءُ إلى أذى بالغ من مَصدر غفل عنه؛ فإن اتخذ بعد ذلكحذَره واحتاط من أشياءٍ بسيطةٍ لا يمكن أن تمثل مصدرَ خديعةٍ جديدة؛قال الناسُ ساخرين: "اللي اتلسع من الشوربة ينفخ في الزبادي". جوهر المأثور هذه المُفارقة الواضحة بين المؤذي بحكم تعريفه وبينالمسالم، والعاقل الذي يدرك طبيعة هذا وذاك؛ لا يقارنهما، ولا يخشىأن يُخدَع فيهما، ولا يتوقع أن يفعل به أحدهما فعيل الآخر.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات