قبل أيام أطلق عدد من أساتذة الجامعات هاشتاج «علماء مصر غاضبون»، لتسليط الضوء على ما وصفوها بأوضاعهم «المعيشية والمهنية المتردية» التى لا تزال «رهن قوانين قديمة ترجع إلى سبعينيات القرن الماضى».
رغم عدالة مطالب الأكاديميين إلا أن بعض المنصات الإعلامية قصفت حملة غضبهم، فوصفتها مرة بـ«المكيدة الإخوانية» وأخرى بـ«آخر حيل الجماعة الإرهابية لإثارة البلبلة»، فى محاولة للجم حالة التفاعل مع الحملة على مواقع التواصل الاجتماعى.
منطقية مطالب الأساتذة وقوة تأثير الحملة فى ساحات الجامعات دفعت عددا من الأصوات العاقلة المسموعة إلى الانتصار لها، وهو ما نفى عنها شبهات «الأخونة».
الدكتور جابر نصار أول رئيس لجامعة القاهرة بعد ٣٠ يونيو أشار إلى أن «تجاهل غضب وآمال أعضاء هيئة التدريس وعلماء مصر من أوضاعهم البائسة أمر غير صحى وليس فى مصلحة أحد».
ورد نصار عبر صفحته الرسمية بموقع «فيس بوك»، على المشككين فى حملة «علماء مصر غاضبون» قائلا إن «اتهامهم فى وطنيتهم مصيبة سودة»، مطالبا بتفهم غضب الأكاديميين «تفهموا غضبهم ولبوا مطالبهم».
أما رئيس جامعة القاهرة الحالى الدكتور محمد عثمان الخشت فعلق على حملة العلماء خلال مؤتمر صحفى عقد الأسبوع الماضى بقوله: نعمل على زيادة موارد أعضاء هيئة التدريس وتوفير مصدر إضافى للدخل لهم، بزيادة مكافآت الأبحاث العلمية ومكافآت النشر الدولى ومناقشة الرسائل العلمية والبرامج الخاصة».
الحملة ليست حيلة أو مكيدة كما روج البعض، وكلام رئيسى جامعة القاهرة الحالى والسابق، يدعم موقف الأساتذة الغاضبين، ويثبت أن هناك خللا فى تقدير البحث العلمى، وهو ما شرحه الأساتذة والباحثون فى تغريداتهم على هاشتاج الحملة، فالأوضاع أكثر من مؤسفة، ولا يليق بدولة بحجم مصر أن تكرس حكومتها استثماراتها فى الحجر، وتتجاهل الاستثمار الحقيقى الذى توضع عليه أساسات الدول، بتعبير أحد الأساتذة المشاركين فى الحملة.
برنامج الإصلاح الاقتصادى الذى بدأت الحكومة تنفيذه قبل 3 سنوات أثر على الطبقة الوسطى بكل مكوناتها وفى القلب منها أساتذة الجامعات، فالأسعار تتضاعف بما لا يتناسب مع الزيادة الضئيلة فى الرواتب، وإذا كانت الحكومة تدعى أن هذا البرنامج سيخرج مصر من عنق الزجاجة، فإن إهمال البحث العلمى وتدهور الأحوال المعيشية للعلماء، يجعل أى الجهود المبذولة حرثا فى البحر، فالعلم هو القاعدة الحقيقية لأى بناء.
قبل رحيله بسنوات سئل العالم الكبير أحمد زويل «هل لديك ثقة فى العقلية المصرية؟» فأجاب: بالتأكيد، لكن إذا وضعناها فى الطريق الصحيح، فالمصريون فى الخارج يقودون عجلة الإنتاج على المستوى العالمى، لكننا للأسف كنا نفعل شيئا من اثنين: إما أن نطفشهم للخارج أو نهمل استغلالهم.
غضب العلماء مبرر، فكادر البحث العلمى والتعليم الجامعى لم يعدل منذ عام 1972، ومخصصات البحث العلمى لم تزد عن 0.72% من إجمالى الناتج المحلي.
ذكر التاريخ لوالى مصر سعيد باشا الكثير من الإنجازات، فالرجل صاحب الفضل فى إصدار لائحة أعطت الفلاحين الحق فى تملك الأراضى، وطهر ترعة المحمودية، وأتم الخط الحديدى بين القاهرة والإسكندرية ومد خطا آخر بين القاهرة والسويس وغيرها من الإنجازات التى لم تصمد، فقد انتهت بـ«تخريب مصر» على حد قوله هو، بحسب ما نقله نوبار باشا فى مذكراته.
قال سعيد وهو يذرف الدمع قبل رحيله «لقد خربت مصر.. خربتها تماما.. ماذا سيقول عنى التاريخ»، في حين حاول سكرتيره نوبار باشا مواساته وتذكيره بإنجازته التى حققها لمصلحة الشعب المصرى، إلا أن هواجس الوالى وخوفه من حكم التاريخ ظلت تطارده.
أهمل الرجل التعليم وحقر شأن العلماء، وأوقف المشروع الذى وضع والده محمد على قواعده، فتوقفت البعثات العلمية للخارج وأغلق المدارس العليا وألغى ديوان المعارف، وبرر سعيد ذلك بمقولته الشهيرة «أمة جاهلة أسلس قيادة من أمة متعلمة»، فدفنت الإنجازت فى المتون وبقيت تلك العبارة تطارد الوالى باعتبارها عنوان فترة حكمه.
«إن الوسيلة العظمى لإسعاد الشعوب والحكام معا هى احترام مبادئ الحرية والعدالة والمساواة، ولا سبيل لتقدم الأمم إلا بالعلم والفكر»، تلك هى وصفة الإصلاح الحقيقية التى وضعها رفاعة الطهطاوى قبل قرن ونصف القرن، ودونها يحل الخراب.