لم يخطئ وزير الإعلام اللبنانى جورج قرداحى عندما وصف الحرب التى تدور رحاها فى اليمن بـ«العبثية»، فالصراع الذى بدأ قبل 7 سنوات ومزق المجتمع اليمنى وقتل مئات الآلاف وشرد وأفقر الملايين هو صراع فى منتهى العبث، لكن تجاهل المذيع المثقف للدور الإيرانى فى استمرار هذه المأساة، وتصويره لجماعة الحوثى على أنها حركة مقاومة، يدخل تحت بند العبث، ويدخل تحت ذات البند أيضا رد الفعل السعودى الخليجى الذى أثار غيرة المواطن اللبنانى على كرامة بلاده وسيادتها.
قبل أسابيع من تكليفه بحقيبة الإعلام فى الحكومة التى شكلها نجيب ميقاتى، حل قرداحى ضيفا على برنامج «برلمان الشعب» الذى تُنتجه شبكة الجزيرة القطرية وتبثه عبر منصة يوتيوب.
الحلقة التى سجلها قرداحى فى أغسطس الماضى، اعتبر فيها أن الحوثيين «يمنيون يدافعون عن أرضهم وعن أنفسهم بلا اعتداء على أحد، بينما يواجهون حربًا عبثية وعدوانًا خارجيًّا يجب أن يتوقف».
وعندما طرح المحاورون اسمى السعودية والإمارات كمتورطين فى هذا العدوان، حاول قرداحى تجاوز تسمية البلدين، لكنه أجاب عن سؤال للمحاورين حول الطائرات المسيرة التى يضرب بها الحوثيون السعودية وقال: «إنها لا تقارن بما يعانونه فى أرضهم وفى بيوتهم وفى جنازاتهم وأفراحهم التى تقصف بالطائرات».
شبكة «الجزيرة» القطرية بثت الحلقة على منصاتها بمواقع التواصل الاجتماعى فى منتصف أكتوبر الجارى، وما بين التاريخين صار قرداحى وزيرا للإعلام بترشيح من رئيس تيار المردة سليمان فرنجية المقرب من سوريا وحزب الله وبالطبع من إيران.
تصريحات قرداحى تدحرجت فى الفضاء الإلكترونى ككرة لهب، وانطلقت حملة ضده تطالبه بالاعتذار عن تصريحاته التى تعكس «فهمًا قاصرًا وقراءة سطحية للأحداث»، وذهب بعض الأمراء الذين لا يحملون صفة رسمية إلى معايرة الدولة اللبنانية بالمساعدات والمعونات التى قدمتها المملكة لشقيقتها فى أوقات سابقة، وهو ما وصفه قرداحى بـ«الابتزاز».
ووصلت الأمور إلى أن سحبت السعودية والبحرين والكويت والإمارات سفراءها من لبنان، وطالبت السفراء اللبنانيين لديها بمغادرة البلاد خلال 48 ساعة، ووقف الورادات اللبنانية إلى السعودية.
قرداحى من جهته اكتفى بتوضيح، أشار فيه إلى أنه أجرى المقابلة قبل شهر من توليه منصبه الرسمى، وأنه لم يقصد الإساءة إلى السعودية والإمارات، «الخارجية» اللبنانية وصفت تصريحات وزير إعلامها بـ«الشخصية»، وقالت إنها لا تمثل موقف الحكومة، وقال مكتب رئيس الحكومة نجيب ميقاتى إن تصريحات الوزير «مرفوضة»، وتخالف موقف الحكومة الحريصة على أفضل علاقات مع السعودية، حتى الرئيس ميشال عون قال إن التصريحات لا تعبر عن موقف لبنان.
كان من الممكن أن تكتفى دول الخليج بتوضيح قرداحى، وبمواقف الرئاسة والحكومة والخارجية اللبنانية الرافضة لتلك التصريحات، لكنها اختارت التصعيد وواصلت الضغط حتى تجبر وزير الإعلام اللبنانى على الاستقالة.
ومع استمرار التصعيد لإجباره على الاستقالة قال قرداحى إنه «لا يجوز أن يكون هناك من يملى علينا ما يجب القيام به من بقاء وزير فى الحكومة أو عدمه»، وإن «لبنان لا يجوز أن يكون عرضة للابتزاز لا من دول ولا سفراء ولا أفراد» رافضًا الاعتذار باعتباره لم يخطئ.
إن حدث واستقال قرداحى، فقد جنب نظريا حكومته أزمة كبيرة، لكن تلك الاستقالة ستعمق عمليا جراحا أكبر من تلك الأزمة، جراحا تتعلق بوقوع دولة عربية ذات سيادة تحت أسر الوصاية سواء كانت تلك الوصاية خليجية أو فارسية.
لم يخطئ قرداحى عندما وصف الحرب فى اليمن بأنها عبثية، فهى بالفعل عبثية، وآن الأوان أن تتوقف لتتوقف معها معاناة الشعب اليمنى الذى يواجه أخطر أزمة إنسانية، لكن خطأ قرداحى وهو الإعلامى المثقف المتابع المسيس، أنه ألقى باللائمة على السعودية والإمارات وحكومة الشرعية المعترف بها دوليا، ولم يشر إلى الدور الإيرانى المسموم فى تلك الحرب.
تجاهل قرداحى دور إيران وأجندتها التوسعية فى المنطقة، غض الرجل، الذى طالما وصف نفسه بأنه قومى عربى، الطرف عن أن طهران لم تتوقف يوما عن العبث بالأمن القومى العربى، تصنع وتدعم أذرع وميليشيا مسلحة بعواصمنا العربية لتدافع عن مصالحها، على ما أعلن على غلام رشيد قائد ما يعرف بـ«مقر خاتم الأنبياء» فى سبتمبر الماضى.
تجاهل قرداحى العبث الإيرانى الذى طال المنطقة كلها، يعلم الرجل أيضا أن طهران كما أمدت الحوثيين بصواريخ بالستية وطائرات مسيرة هجومية لضرب المصالح الخليجية أمدت أيضا حكومة آبى أحمد الإثيوبية بنفس الطائرات المتطورة.
الحرب العبثية فى اليمن يجب أن تتوقف بالفعل، لكن الجميع يعى أن مفتاح الحل والتسوية ليس فى يد جماعة الحوثى لكنه فى أيدى ملالى إيران الذين يربطون التسوية فى اليمن بملفات إقليمية ودولية، وهم فى ذلك غير عابئين بمأساة الشعب اليمنى.
قد يكون قرداحى صاحب هوى وله انحيازات عبر عنها قبل أن يكون وزيرا، لكن فى المقابل رد الفعل السعودى الخليجى الخشن، سيكون له مردود بالغ السوء ليس على الحكومة اللبنانية أو على طائفة من طوائفه لكن على الشعب اللبنانى الذى ملَّ من اجترار الشيوخ لحديث المعونات والمساعدات.
تلك الخشونة قد تدفع اللبنانيين إلى البحث عن حواضن أخرى بديلا عن الحاضنة العربية، علاج الموقف كان يحتاج إلى حكمة أكثر وتقدير أشمل للموقف، وكان يمكن أن تكتفى السعودية وحلفائها فى الخليج بتوضيح قرداحى واعتذار حكومته.