ارتدى المستشار الألمانى أولاف شولتس، يوم الإثنين 23 أكتوبر 2023، قبعة يهودية «كيباه» فى حفل افتتاح كنيس يهودى فى مدينة ديساو الألمانية، لكن حكومته عممت قرارا يمنع ارتداء الشال الفلسطينى فى المدارس والجامعات فى مفارقة جديدة كاشفة لعمق الحالة الألمانية.
يتبارى الساسة الألمان فى إظهار الدعم لإسرائيل ويكاد الخطاب الألمانى أن يتفوق على نظيره الأمريكى فى المباهاة بالحفاظ على أمن إسرائيل. بدأت المباراة بتصريح وزيرة الخارجية فى الأيام الأولى لعملية حماس مهللة (كلنا إسرائيل)، ولحقت بها وزيرة الداخلية نانسى فايزر داعية إلى ترحيل داعمى حركة حماس من البلاد دون تقديم تعريف واضح لمصطلح «داعم».
يصعب تتبع الاستجابات الألمانية المتدفقة التى تتفق عليها النخبة السياسية ومعظم الشارع الألمانى، فالتجاهل المريب للدماء الفلسطينية المراقة والتدمير الهستيرى للبنية الأساسية، يعزز من طرح أستاذ جامعة كولومبيا «جوزيف مسعد» الذى يصف ألمانيا بالعدو الدائم للنضال الفلسطينى. لم تترك ألمانيا منفذا ــ ولو ضيقا ــ لإدانة الهجوم الوحشى على المدنيين بغزة بل تجاهلت بتعنت لافت محرقة سكان غزة بنيران إسرائيل.
غزلت المستشارة السابقة أنجيلا ميركل عام 2008 مقولة «أمن إسرائيل مصلحة وطنية لألمانيا»، والذى استخدمته خلال زيارتها للدولة اليهودية فى أكتوبر 2012. أعربت آنذاك عن ثقتها فى أن أمن إسرائيل سيكون ذا أهمية مركزية لكل حكومة ألمانية. ولم يخن المستشار الألمانى الراهن، أولاف شولتس، وصيتها فكرر أمام أعضاء البرلمان الفيدرالى الألمانى ــ البوندستاج ــ يوم الثانى عشر من أكتوبر مؤكدا أن أمن إسرائيل «مصلحة وطنية». تقول الأستاذة ماريتا أوير، مديرة معهد ماكس بلانك للتاريخ فى حوار لها مع قناة DW الألمانية، «إن المصلحة الوطنية تعنى دائما تقديم المصلحة على القيم».
●●●
سجنت ألمانيا فى مشاعر الذنب التى أغرقتها بها إسرائيل، كما لم تقصر الحكومات الألمانية المتعاقبة منذ الحرب العالمية الثانية فى تمرير تلك المشاعر للدماء الألمانية ذاتها، برغم ذلك لم تكن المحرقة بمفردها وما تلاها من الرغبة الألمانية فى غسل وصمتها أمام العالم هو السبب الوحيد لتلك الرابطة المقدسة بين ألمانيا وإسرائيل.
يقول أستاذ التاريخ بجامعة تكريت، د. دحام عبدالصمد فى دراسته المنشورة فى المجلد 26 لجامعة تكريت للعلوم الإنسانية عام 2018، لقد كانت اتفاقية التعويضات الألمانية الإسرائيلية التى وقعت فى عام 1952 عبارة عن انبعاث إسرائيل من رماد الكارثة، ويقصد المحرقة النازية. فما إن توقفت الحرب العالمية الثانية حتى بدأت المنظمات اليهودية فى المطالبة بالتعويضات. دون المستشار أديناور فى مذكراته (كان واضحا لى أنه إذا فشلت المفاوضات مع اليهود فإن المفاوضات فى مؤتمر لندن حول ديون ألمانيا للغرب قد تفشل لأن المصرفية اليهودية قد تمارس نفوذا على أعضاء مؤتمر لندن). وتعرف صفحة حزب الاتحاد المسيحى المستشار كونراد أديناور بأنه المستشار المؤسس لجمهورية ألمانيا الاتحادية، والذى رسم إبان توليه منصب المستشارية (1949ــ 1963) البنية الداخلية والتوجه فى السياسة الخارجية لجمهورية ألمانيا الاتحادية حتى اليوم.
توصلت إسرائيل إلى اتفاقية حصلت بموجبها من ألمانيا على تعويضات فى شكل سلع وخدمات بقيمة ثلاثة ملايين (مارك ألمانى) أى ما يعادل 1,5 مليون يورو على مدى اثنى عشر عاما، كما حصدت المنظمات اليهودية المدافعة عن ضحايا المحرقة النازية على 450 مليون مارك. وفى الفترة ما بين 1660ــ1970 كانت ألمانيا الاتحادية ثانى أكبر مصدر أسلحة لإسرائيل. يقول المؤرخ الإسرائيلى توم زيكيف، «اعتبرنا ألمانيا منذ ذلك الوقت مصدر قوة لإسرائيل». استثمر الكيان الصهيونى الوليد تلك التعويضات فى بناء الجيش مستعينا بالخبرات الفنية الألمانية وفى تطوير بنيته التحتية ودمج مئات الآلاف من القادمين الجدد وبناء مستوطنات تلو أخرى نزعت أراضيها من ملاكها الفلسطينيين.
كانت ألمانيا بحاجة ماسة إلى استعادة ثقة المجتمع الدولى التى أهدرتها الحرب، فلجأت إلى سبل عدة، وكان التعاون مع إسرائيل هو إحدى تلك السبل فى وقت كانت الدول المحتلة لشمال أفريقيا وفلسطين هى الأكثر تأثيرا على الصعيد الدولى؛ فضلا عن بروز قوة الولايات المتحدة وهى الدول ذاتها التى دفعت بتكوين الدولة الصهيوينة.
ومع تنامى قوة ألمانيا السياسية والاقتصادية، تنامى أيضا التزامها بدعم إسرائيل برغم انتهاء مدة الاتفاقية الخاصة بالتعويضات، وقد كشفت الصفحة الرسمية لهيئة الإذاعة والتلفزيون DW المملوكة للدولة فى سبتمبر عام 2012 أن مجموع التعويضات التى دفعتها ألمانيا بلغ نحو 83 مليار مارك.
●●●
يرى بعض الخبراء أن عقدة الذنب لا تصمد بمفردها تفسيرا للعلاقة الاستثنائية بين ألمانيا وإسرائيل، وأن أبعادا أخرى تحملها تلك العلاقة، فألمانيا التى لها تاريخ استعمارى ــ كالعديد من جيرانها الأوروبيين ــ تملك ذات الاعتقاد بالتفوق والاستحقاق فى نظرتها إلى الدول التى وقعت تحت سيطرة الاحتلال، وبرغم أن شمال أفريقيا لم يقع تحت الاحتلال الألمانى لكن ذات المنطقة كانت محتلة بفعل قوى أوروبية أخرى.
تلعب العلاقات الألمانية الأمريكية دورا أيضا فى تفسير الحالة الألمانية الإسرائيلية، فبرغم الحضور الأوروبى البارز حاليا لألمانيا لكن البعض يتشكك فى استقلالها التام عن الولايات المتحدة الأمريكية، راعيتها الكبرى إبان الحرب العالمية الثانية. نعم ساعدت الولايات المتحدة فى إعمار ألمانيا وبقية الدول الأوروبية التى دمرتها الحرب، وأعانتها على استعادة عافيتها الصناعية والتجارية، لكنها فى خضم الإعمار غرست لنفسها موقعا يصعب خلعه ساهم كثيرا فى تبنى ألمانيا وكثير من الدول الأوروبية لسياسات الولايات المتحدة الأمريكية والرضوخ لضغوطها.
تلقى الحرب على غزة واستجابة ألمانيا المتمثلة فى إنارتها بألوان العلم الإسرائيلى على معلمها التاريخى الأشهر بقلب برلين «بوابة براندبورج»، وإعلامها المدافع أبدا عن إسرائيل واقتصادها المتعثر بفعل الدعم العسكرى لأوكرانيا بالشك فى قرب خلاص ألمانيا من توحدها الإسرائيلى الأمريكى.