عبد الرازق أحمد الشاعر يكتب: مصر بين الهرطقة والماجنا كارتا
آخر تحديث: الأحد 9 سبتمبر 2012 - 10:05 م بتوقيت القاهرة
شهدت الفترة الممتدة بين منتصف القرن الثاني عشر ونهايات القرن الثالث عشر الميلاديين مخاضا مجتمعيا في أوروبا يشبه إلى حد كبير ما تمر به بلادنا الباحثة عن الذات اليوم. فقد تشكلت نواة التمرد على الإقطاع الفكري والسياسي والاجتماعي، وبدأت الخارطة الأوروبية في الانتماء إلى هوية واحدة تشقها الحدود وجوازات السفر إبان تلك الفترة، وتقاسمت الجامعة السلطة مع البابا والإمبراطور. ومع سقوط الإقطاع الزراعي تشكلت مجتمعات حديثة طامحة إلى الحرية وحقوق المواطنة. كما شهدت تلك الفترة صعود وأفول الحروب الصليبية وتشكل تجمعات البروليتاريا التي مهدت لظهور باقي الحركات الإنسانية في القارة الفتية.
غير أن الملفت للنظر أن تلك الفترة التي شهدت مدا سياسيا رائعا تجسد في وثيقة الماجنا كارتا والتي تعد أولى الوثائق الإنجليزية التي تحارب الاستبداد وتناهض السلطة المطلقة وتدعو إلى محاسبة الحاكم وتخضعه للقانون المجتمعي الذي يخضع له السوقة والدهماء، إلا أنها شهدت تراجعا في الحريات الدينية واستبداد رجال الدين الكاثوليك، وإخضاعهم كل من خالف عقيدتهم أو فكرهم لمحاكم التفتيش التي امتد لهيبها ليطال المسلمين الأسبان الذين رفضوا التخلي عن ديانتهم بعد سقوط دولتهم وذهاب مجدهم فيما بعد.
المؤكد أن الجامعة الفرنسية التي حملت لواء الثورة على الاستبداد السياسي وهتفت بسقوط الهيمنة الإمبراطورية على شئون البلاد قد ساهمت إلى حد كبير في شيوع المد التكفيري وذيوع التطرف الديني الذي أودع مقاليد الفكر الغربي في يد حفنة من الكهنة المنتفعين الذين استخدموا شعار الهرطقة سلاحا في وجه الثائرين على السلطان الكنسي غير المقدس وغير النزيه. ولأن الثوار كانوا ينظرون إلى التاريخ بعين واحدة، فقد انصب جام غضبهم على الحاكم المستبد، وجبنوا عن الخروج على سلطان القساوسة الذين ادعوا فيما بعد أنهم يمتلكون صكوك غفران تدخل من يشاءون في رحمة الله وتخرج من يريدون من جنته.
واستمر الأمر قرونا عدة، حتى بدأ المفكرون وخريجوا الجامعات وطبقة البروليتاريا بالتململ والضيق من إسراف الكهنة في استخدام صلاحياتهم المغتصبة والحكم بما لم ينزل الله، فثاروا في وجه كهنوتهم غير المقدس، وبدا دور الدين في أوروبا في التراجع لتحل محله الفلسفات اللادينية وتشيع الهرطقة، ويدرس الفكر الإلحادي في كافة الجامعات ويشهر من فوق كافة المنابر الثقافية هناك.
ولأننا لا زلنا حائرين في صياغة الماجنا كارتا المصرية، ونبذل قصارى وعينا في التمرد على هيمنة الحاكم الفرد محاولين إخضاع الإقطاعيين من السياسيين والرأسماليين في بلادنا لقانون موحد يضع مقاعدهم مع مقاعد طبقات الشعب الكادحة على طاولة واحدة أمام قاض عادل أشعر بالخزي. فمن العار أن نعيد اليوم بعد مرور مئات الأعوام صياغة الماجنا كارتا لنثبت أننا لم نتقدم على مقياس البشرية أنملة واحدة، وأننا نرتكب نفس الحماقات التاريخية وأن التاريخ لا يعيد نفسه إلا في بلادنا المغلوبة على تخلفها.
المخيف في الأمر نشوء حركات دينية رجعية بالتوازي مع تحررنا السياسي تطالبنا بالعودة إلى العصور الوسطى من الفكر اللاهوتي لتستمد بعض القوة من ضعف الفكر الديني وغياب الوعي الإسلامي الذي رافق عهد الانحطاط الثقافي في كافة المجالات. وخطورة تلك الجماعات تنشأ من كونها تخلط في أحكامها بين اليقيني والظني، وبين الثابت والمتحرك من أصول الفكر الإسلامي، وتجتهد في أمور السياسة محاولة تأصيل اجتهاداتها بنصوص قرآنية أو أحاديث نبوية، متجاهلة تقديم النبي صلى الله عليه وسلم رأي أصحابه على رأيه في أمور الدنيا لأنهم أعلم (من النبي) بأمور دنياهم.
ولأن الأتباع كثر، يغتر بعض الدعاة بما لديه من أصوات تهلل، فيتطاول على العباد مسلطا سيف الحق على رقابهم، وكأن الله قد أمره بفحش القول أو البحث في خفايا الناس وكشف سوءاتهم، فيفسد من حيث أراد الإصلاح، والله لا يحب الفساد. فيكون هذا الداعية مدعاة لأولى الأحلام السخيفة وأصحاب الحجج الضعيفة للتجرؤ على الرموز الدينية والتطاول عليها، فيمتد إثمه إلى من سواه. ومن هنا، يجد بعض الموتورين والحاقدين على الإسلام بغيتهم، فينقلون جعبة سهامهم من كتف الراوي إلى كتف الرواية ويبدأ اللمز والغمز فيما يقول صاحبنا وما يفتي به رجال الدين بما استحفظوا من كتاب الله وبما درسوا من آياته. وهكذا تنتقل الحرب من الشخوص إلى النصوص ويتجرأ السفهاء والمتفيقهون على الدين، فيهرفون بما لا يعرفون ويخوضون فيه بأحلامهم ورؤاهم، وهنا تكمن الكارثة.
نحتاج اليوم إلى ماجنا كارتا تنزع عن رئيس الدولة سلطاته المطلقة فلا حاكمية إلا لله، ونحتاج إلى غربلة أفكارنا التقليدية في التعصب للأشخاص والدفاع عن فكرهم دون مراجعته، وبسط أردية مقدسة فوق أكتافهم النحيلة لأننا نضر بديننا من حيث أردنا الدفاع عنه إن فعلنا. نحتاج إلى وعي مجتمعي نصطف خلفه، لا إلى أشخاص يجتهدون بفكرهم فيصيبون ويخطئون فنميل معهم حيث مالوا. ونحتاج أن نكف عن المحاباة فيما يتعلق بأمور السياسة والمجتمع وأن نتوقف عن إقحام النصوص المقدسة في آرائنا غير المقدسة لأن من يقرءون فتاولنا لا يجيدون التفرقة أحيانا بين أمور الدين وأمور الدنيا فيتعصبون للخطأ كما يتعصبون للفضيلة.