محمد الفاروق: الحرية وضباب الانتقالية

آخر تحديث: الإثنين 20 فبراير 2012 - 6:12 م بتوقيت القاهرة

أم الغايات التي يجب أن تنظم جهود التربية الراقية إلي تحرير الإنسان هي بناء الإنسان الحر.. الذي يستطيع الاختيار وهو الذي يسيطر على نفسه، وهو الذي يُلَجَّم شهواته، وهو الذي يقهر الخوف فيه، وهو الذي يمتلك معارف زمانه، وهو الذي يعي منطق التاريخ، وهو الذي لا ينكر حق الآخرين في الوجود، وهو الذي لا يتعصب لفكرة ولو آمن بها، وهو الذي يحارب الظلم، وهو الذي يقدم في شجاعة وإيجابية لإقرار الحق.

 

ثمة تشابه بين الأحوال الجوية والسياسية حيث إننا نتوقع ولا نؤكد في كلتا الحالتين فالمناخ والسياسة يخضعا للمتغيرات، فكما يقال: تأتى الرياح بما لا تشتهي السفن نستطيع أن نقول أيضاً تأتى السياسة بما لا تشتهى الشعوب.


الضباب هو ظاهرة مناخية معروفة ولكنها لا تقتصر فقط على المناخ وإنما يقابلها على الصعيد السياسي ما يسمى "بالضباب السياسي" وهو حالة من انعدام التفكير نتيجة وجود ثقافة منخفضة مصحوبة بانخفاض في درجات الوطنية مما يؤدى إلى زيادة نسبة التفكك المجتمعي وغياب الثقة والوفاء والانتماء، لذلك ننصح السادة المواطنين بعدم الانقياد وراء الشائعات والفتن والمسيرات المغرضة.

 

من المعروف أن المرحلة التي تفصل بين تحول الدول من النظام الديكتاتوري إلى النظام الديموقراطي تسمى بالمرحلة أو الفترة الانتقالية وهذا مسمى شكلياً وإنما مضمون التحول يتم بشكل تدريجي وليس انتقالي طردي نظرا لما يشوب هذه المرحلة من ضباب سياسي وشك وريبة، لذلك فعلي الجميع تحسس خطاهم والتريث وعدم التسرع، ولكننا أردنا الهرولة لهذا اصطدمنا وتعثرنا بأنفسنا وأصبح كلاً منا حجراً في طريق الآخر، ففي ظل ظلام الضباب يخيم الخوف فيشل العقل ويغيب الفكر وهذا يسبب حرب الكل ضد الكل دون أن يدري أحد.

 

وما يدلل على ذلك هو مرور مصر بالعديد من المحن والفتن والحوادث خلال تلك الفترة وكلها تحدث في الضباب لا أحد يعلم كيف ومتي وأين تحدث ومن ورائها ونتيجة لذلك ظهر لنا مصطلح "الطرف الثالث" وكأن هذه الحوادث تقع فيما وراء الطبيعة، وحين أردنا توقيع العقاب فالكل اتهم الكل وكان الحكم سجن الوهم.

 

دائماً ما تحدث الثورات حالة من الخلخلة في المجتمع نتيجة التغيير المفاجىء الذي تحدثه الثورة، ولكن الثورة المصرية قد كسرت هذه القاعدة وأحدثت حالة من التصفية المجتمعية، فقد انتقلنا في أيام معدودات من الشيء إلى النقيض والمدهش أن لدي الجميع المبررات الحاضرة لذلك، وذابت المودة والرحمة في قلوب المصريين وكأن المجتمع الأسري الذي كنا نتميز به كان كبيت العنكبوت وأخذنا في عقاب الماضي ومازلنا حتى قاربنا على معاقبة أنفسنا.

 

ما بين الحرية والفوضى خط وهمي لا نراه بأعيننا ولكننا نشعر به عندما نمارس الحرية وحذار أن نتخطاه، لأن مستنقع الفوضى لن يجدي معه حتى الحاكم الديكتاتور لأن الكل سيكون ديكتاتور نفسه وهكذا يتم التحول إلى مجتمع الغابة!!

 

الإنسان حر طالما لم يضر بغيره هذا ما يقال عندما يتحدث بعضهم عن مفهوم الحرية والحقيقة أن الحرية لا يمكن اختزالها في قوالب المفاهيم لأنها منحة إلهَّية للإنسان، فقد خلق المولى عز وجل جميع البشر أحرار متساوين كأسنان المشط أما العبودية فهي من صنع الإنسان، فخلق الله النفس البشرية حرة مُخَيَّرة وخلق منها ضوابطها، إذن فنحن لسنا في حاجة إلى تعريفات أو مفاهيم تنظمنا وإنما نحن في أمَس الحاجة إلى الرجوع إلى كتاب الله وسنة نبينا محمد صل الله عليه وسلم.

 

ولكننا واعتماداً على العلوم البشرية تمشياً مع الأفكار العلمانية وربما الليبرالية نستطيع أن نستنبط أن هناك نوعان للحرية متداخلان متكاملان بينهم اختلافاً شكلياً وليس جوهرياً وهما الحرية الشخصية والحرية العامة الأولى تنتهي عند بداية الثانية – والثانية تحدد وتقيد الأولى , فالحرية هي غلاف شكلي لسلوكيات وأفعال الفرد وعندما تنتقل إلى سلوكيات وأفعال الجماعة يصبح مضمون الحرية قيود، وهذا الشكل والمضمون يحددهما أسس ومبادىء وقيم ومرجعية كل جماعة (مجتمع).

 

وبناء على ذلك فأنه من السهل أن نتمتع بالحرية والأسهل أن نمارس الديمقراطية أما الصعب هو الالتزام بالقيود إذن فان أسمى معاني الحرية وقمة الديمقراطية أن نخضع أنفسنا للالتزام بتلك القيود فالحرية شكل ومضمونها قيود.

 

نحن نريد الحرية وهذا حقنا وبعد الثورة أخذنا الحرية وصرنا نمثل دور الأحرار وتركنا مضمون الحرية، والحقيقة الثابتة الآن أننا نعيش بالفعل في حرية ولكنها حرية الفوضى لا فوضى الحرية، فحريتنا زائفة لأنها دُعمت بالفوضى الشاملة في كل المجالات على مدار ثلاثين عام مضت.

 

لا فائدة من التغيير لو اقتصر على مجرد الحصول على معارف ومعلومات جديدة، فمن الطبيعي أن التنمية الفعلية للشخصية الإنسانية الحرة لا تتأتى من مجرد مناقشات وشعارات ترفع، وإنما هي سلوك وثقافة وفكر ونظام حياة، وطالما أن هناك انعدام في الثقافة السلوكية للحرية وغياب العقلية الديمقراطية في المنزل والشارع والمدرسة والجامعة والإعلامِ والمؤسسات المختلفة وعدم حرص تلك المؤسسات في التعامل الفكري والسلوكي مع الفرد في كل لحظة من لحظات بناءه المتكامل فسوف تظل أزمة حقوق الإنسان وحرياته "خرساء نستنطقها فلا تجيب" وهذا الأمر يؤكد على ضرورة توافر مجموعة من الأبعاد ( البعد المعرفي – البعد التشريعي –البعد السلوكي) ينهض عليها بناء الإنسان الحر وبدونها كلياً أو جزئياً يختل البناء وتهيمن قيم الظلم والعبودية والاستغلال.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved