انطلقت جولة المفاوضات الثانية بين إيران والولايات المتحدة، اليوم السبت، في العاصمة الإيطالية روما، وسط مؤشرات حذرة على إمكانية تحقيق تقدم في ملف طهران النووي، الذي ظل مجمّدًا لأكثر من عامين.
وتُبدي إيران في هذه المرحلة، رغم اللهجة التصعيدية التي تصدر عن بعض الأصوات الأمريكية، قدرًا من الانفتاح المشروط، في محاولة واضحة لاختبار جدية واشنطن وإعادة ضبط التوازن بين التنازلات والضمانات.
وقال وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، عقب لقائه بنظيره الروسي سيرجي لافروف في موسكو، إن التوصل إلى اتفاق ممكن إذا تخلت الولايات المتحدة عن المطالب غير الواقعية وأبدت نوايا جادة، وهو ما اعتبره مراقبون تحوّلًا في الخطاب الإيراني، القائم تقليديًا على التصعيد اللفظي، نحو مقاربة أكثر براجماتية، وفقا لرويترز.
وتأتي الجولة الثانية التي ترعاها سلطنة عمان عبر وزير خارجيتها بدر البوسعيدي، بعد محادثات أولى غير مباشرة جرت السبت الماضي في مسقط، شكّلت أول اختبار دبلوماسي بين الجانبين منذ توقف المفاوضات في 2021، حيث اشترطت إيران حينها أن يكون أي تخفيف للعقوبات مصحوبًا بضمانات ملزمة تمنع الانسحاب الأحادي من الاتفاق، في إشارة ضمنية إلى انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي السابق في 2018.
رسائل مزدوجة التحركات الإيرانية تُقرأ على مستويين
فيما تسعى طهران، من جهة إلى الحفاظ على هامش تفاوضي مفتوح أمام أوروبا وروسيا، بما يمنحها أدوات ضغط في مواجهة واشنطن.
ومن جهة أخرى، يوجّه عراقجي، رسائل للداخل الإيراني تفيد بأن بلاده لا تدخل في تفاوض من موقع ضعف، بل بشروط تحفظ سيادتها السياسية والاقتصادية.
في المقابل، ورغم التلويح العسكري من جانب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإمكانية مهاجمة إيران في حال فشل التوصل إلى اتفاق، فإن التصريحات الأحدث لوزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو تعكس توجهًا نحو تفعيل مسار تفاوضي "هادئ"، حيث قال إن الإدارة الأمريكية "تسعى لحل سلمي، لكنها لا تقبل بامتلاك إيران سلاحًا نوويًا".
الوساطة الروسية: دعم أم مناورة؟
ومن اللافت أن موسكو، رغم انشغالها بأزماتها الإقليمية، لا تزال تحتفظ بدور نشط في الملف النووي الإيراني، وهو ما عبّر عنه لافروف بقوله إن بلاده "مستعدة للتوسط في أي صيغة تُفضي إلى اتفاق يخدم الطرفين".
عهد الشاه.. تحرك نووي بتعاون غربي دون قلق أمريكي
بدأت إيران الاهتمام بالطاقة النووية منذ عام 1957 في عهد الشاه محمد رضا بهلوي، الذي أطلق أولى خطوات التعاون النووي مع فرنسا، ثم الولايات المتحدة، التي زودت إيران بمفاعل بحثي من طراز (POOL) عام 1967، هذا الاهتمام المبكر لم يكن يعبّر عن طموح عسكري في ذلك الوقت، بل كان يهدف إلى إنشاء محطة نووية لإنتاج الطاقة الكهربائية.
الثورة الإسلامية وحرب العراق.. تبدل النوايا وصعود النووي بين أولويات
وفي إطار التزامها بالاستخدام السلمي للطاقة النووية، وقّعت إيران على معاهدة الحد من الانتشار النووي عام 1968، كما وقّعت على اتفاقية الضمانات الخاصة بالوكالة الدولية للطاقة الذرية عام 1975، مؤكدة انفتاحها على التعاون الدولي وخضوع منشآتها للرقابة.
فيما توقف البرنامج مؤقتًا بعد الثورة الإسلامية عام 1979، لكنه استُؤنف في منتصف الثمانينيات في ظل ظروف الحرب العراقية الإيرانية، ثم شهد انطلاقة حقيقية بعد عام 1988 مع انتهاء الحرب وتفكك الاتحاد السوفييتي، حيث استفادت إيران من فجوات السوق النووية ومن التعاون مع الصين وباكستان وروسيا.
كما جاء تطور البرنامج النووي الإيراني على مراحل غير منتظمة، متأثرًا بالسياقات السياسية والظروف الدولية والإقليمية.
ورغم غياب استراتيجية واضحة في بداياته، فقد أصبح الملف النووي واحدًا من أولويات السياسة الإيرانية منذ التسعينيات، لا سيما مع دخول طهران مراحل متقدمة من شراء المفاعلات النووية والعمل على إنشاء محطات إنتاج الطاقة، وفي مقدمتها محطة بوشهر جنوب البلاد.
سنوات الألفية.. من الانفتاح الحذر إلى الانفجار السياسي
مع تولي باراك أوباما الرئاسة الأمريكية، تبدلت اللهجة الأمريكية من التهديد إلى الحوار، ليتم في يوليو 2015 التوصل إلى الاتفاق النووي، الذي خفف العقوبات على طهران مقابل التزامات نووية صارمة.
الاتفاق اعتُبر حينها إنجازًا دبلوماسيًا غير مسبوق، لكنه ظل موضع خلاف داخلي في أمريكا وخارجها، خاصة من إسرائيل ودول الخليج، التي رأت فيه غطاءً لنوايا إيران المستقبلية.
سنوات الألفية.. الانفتاح والتصعيد
وبدأ التصعيد النووي الإيراني في أغسطس 2002، بالكشف عن موقعين سريين لتخصيب اليورانيوم في نطنز وآراك، ما دفع إيران إلى الموافقة على عمليات تفتيش من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي عثرت على آثار يورانيوم مخصب.
وفي أكتوبر 2003، تعهدت طهران بتعليق التخصيب إثر زيارة وزراء خارجية فرنسا وألمانيا وبريطانيا، وتُوّج ذلك باتفاق في نوفمبر 2004.
واستأنفت إيران في عهد الرئيس المحافظ أحمدي نجاد، أنشطتها النووية في أغسطس 2005، ما دفع الدول الكبرى لرفع الملف إلى مجلس الأمن.
وفي أبريل 2006 أعلنت إيران نجاحها لأول مرة في تخصيب اليورانيوم بنسبة 3.5%، ولاحقًا رفضت طلبًا بوقف التخصيب، وافتتحت مصنعًا للمياه الثقيلة.
ومع نهاية 2006، فرضت الأمم المتحدة أولى العقوبات التي تصاعدت تدريجيًا، إلى جانب عقوبات أمريكية وأوروبية.
أوباما.. تمهيد لاحتواء ونهاية باتفاق
في 2009، مد الرئيس الأمريكي باراك أوباما يده لطهران، لكنها واصلت تطوير قدراتها، وافتتحت مصنعًا للوقود النووي.
وبعد اكتشاف موقع تخصيب سري في فوردو، بدأت إيران بإنتاج يورانيوم مخصب بنسبة 20% عام 2010. وفي 2012، فرض الاتحاد الأوروبي حظرًا نفطيًا واسعًا.
وبدلت اللهجة الأمريكية من التهديد إلى الحوار، ليتم في يوليو 2015 التوصل إلى الاتفاق النووي الذي خفف العقوبات على طهران مقابل التزامات نووية صارمة.
واعتُبر حينها الاتفاق إنجازًا دبلوماسيًا غير مسبوق، لكنه ظل موضع خلاف داخلي في أمريكا وخارجها، خاصة من إسرائيل ودول الخليج، التي رأت فيه غطاءً لنوايا إيران المستقبلية.
ترامب.. صفعة الانسحاب والضغط الأقصى
وفي 2018، ومع عهد دونالد ترامب، انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق، معتبرة أنه لم يعالج جوهر التهديد الإيراني.
وتبعت ذلك عقوبات قاسية ضمن سياسة "الضغط الأقصى"، ما دفع إيران للتخلي تدريجيًا عن التزاماتها، واستئناف التخصيب بنسبة أعلى، وسط تصاعد التهديدات بين الطرفين.
ورغم هذا التصعيد، حافظت إيران على خطاب يستند إلى مرجعية دينية تمنع تصنيع أو استخدام السلاح النووي، إذ تستند طهران إلى فتوى صادرة عن المرشد الأعلى علي خامنئي، تؤكد أن "إنتاج وتخزين واستخدام أسلحة الدمار الشامل، ومنها النووية، محرّم شرعًا"، وأن الشعب الإيراني، كضحية سابقة للهجمات الكيميائية، يعتبر حماية البشرية من هذه الأسلحة مسؤولية جماعية.
فيما استخدمت إيران هذه الفتوى كوثيقة أخلاقية في المحافل الدولية، وإن شكّك البعض في مدى قدرتها على ضبط الحسابات الاستراتيجية طويلة المدى.