تفاصيل الخطة الأمريكية «ألفا» لإقناع مصر بالتسوية مع الإسرائيليين

آخر تحديث: الجمعة 2 أكتوبر 2020 - 7:19 م بتوقيت القاهرة

كتب – إسماعيل الأشول:

عبدالناصر: إذا اعترفت إسرائيل بخطوط التقسيم وتقدمت بخريطة نهائية لحدودها فإنها تثبت أنها مستعدة للسلام
جون فوستر دالاس: لا ينبغى السماح لناصر بأن يتصور أن فى مقدوره قول لا
«إذا كانت هناك فرصة لتحقيق سلام بين العرب وإسرائيل فإن السبيل الوحيدة لتحقيقه لابد أن تبدأ من القاهرة»
خبراء أمريكيون: «إذا عرضنا على ناصر بعثات أكثر فى الجامعات الأمريكية لشباب مصرى فإن ذلك قد يضع قطعة سكر إضافية فى فمه»

مستعينا بتلال من الوثائق، تؤرخ وتتقصى وترصد تفاصيل مراحل المفاوضات غير المعلنة بين العرب وإسرائيل طيلة عقود مضت، يسرد الكاتب الكبير الراحل محمد حسنين هيكل، خفايا ذلك الملف، فى ثلاثيته التى حملت عنوانا رئيسيا «المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل» والصادرة عن دار «الشروق»، فى طبعات عدة منذ صدور طبعتها الأولى عام 1996. حمل الجزء الأول من الثلاثية: عنوانا فرعيا «الأسطورة والإمبراطورية والدولة اليهودية»، والجزء الثانى كان بعنوان «عواصف الحرب والسلام»، أما الجزء الثالث فكان عنوانه الفرعى «سلام الأوهام».
فى السطور التالية، نواصل المضى مع المحاولات الأمريكية المستمرة لإقناع نظام يوليو 1952 بقيادة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر بجدوى «السلام» مع «إسرائيل».
فى مايو من عام 1953، أجرى وزير الخارجية الأمريكى جون فوستر دالاس، جولة بالشرق الأوسط، مستكشفا طريقة إلى خطة لترتيب أوضاعها. وبعد استعراض مفصل من هيكل لمحطات دالاس بالمنطقة، يعلق قائلا: كانت نظرية دالاس أنه فى كل مكان ذهب إليه فى الشرق الأوسط يتحدث عن مشروعات الدفاع عنه ضد الاتحاد السوفيتى، وجد أمامه عاملا آخر يسبقه وهو «الصراع العربى الإسرائيلى». وبالتالى فإن تسوية هذا الصراع هى المقدمة التى لا يمكن الالتفاف حولها لإقامة نظام دفاعى شرق أوسطى.
وهكذا فإنه فور عودة جون فوستر دالاس إلى واشنطن، كانت المناقشات حول الخطوة التالية للسياسة الأمريكية تربط عضويا بين الدفاع عن الشرق الأوسط ضد الاتحاد السوفيتى وبين السلام بين العرب وإسرائيل. وطرح دالاس نظرية تبلورت فى ذهنه بعد تفكير طويل، مؤداها أنه ربما كان الأفضل أن تبدأ عملية السلام بين العرب وإسرائيل بالدول العربية الصغيرة: الأردن ولبنان، فهذه يسهل إقناعها، على عكس الدول العربية الكبيرة. وجرت مناقشات طويلة بينه وبين خبرائه الذين استطاعوا إقناعه فى النهاية بأن البدء بالدول الصغرى كالأردن ولبنان مستحيل، وقد جرت تجربته بالفعل، وانتهت بطريقة مأساوية باغتيال الملك عبدالله، ملك الأردن، ورياض الصلح، أكبر سياسى مسلم فى لبنان.
ثم توصل دالاس ومعه مستشاروه إلى «أنه إذا كانت هناك فرصة لتحقيق سلام بين العرب وإسرائيل، فإن السبيل الوحيدة لتحقيقه لابد أن تبدأ من القاهرة. لأن وزن مصر التاريخى وتأثيرها فى العالم العربى، إلى جانب ظروفها الراهنة، قد تغريها بالقيام بهذا الدور خصوصا إذا ساعدتها الولايات المتحدة عليه. وإذا تحقق ذلك، فإن بقية الدول العربية لن يكون أمامها مفر من أن تسير على نفس الطريق، وهذا هو الذى حدث تماما فى تجربة اتفاقيات الهدنة فى أعقاب حرب فلسطين».
وفى أوائل سنة 1954 كانت لدى دالاس «مبادئ عمل» تتلاقى عند الهدف المزدوج الذى يريده، وهو تحقيق سلام بين العرب وإسرائيل أولا، وحتى تستطيع المنطقة كلها ثانيا أن تدخل منسجمة ومتسقة فى خطة المواجهة مع الاتحاد السوفيتى. وكانت «مبادئ العمل» التى تدور فى فكر وزير الخارجية الأمريكى كما يلى:
1 ــ مساعدة مصر وبريطانيا على التوصل إلى اتفاق يؤدى إلى جلاء القوات البريطانية من قاعدة قناة السويس.
2 ــ وبما أن تنفيذ هذا الاتفاق سوف يقتضى فترة زمنية لازمة لتحقيقه، فإن مصر فى هذه الفترة وبحرصها على إتمام الجلاء سوف تكون متفتحة للمساعى الأمريكية بشأن السلام مع إسرائيل.
3 ــ إنه يمكن مساعدة «تفتح» مصر فى هذه الفترة الحساسة بإعطائها مساعدات عسكرية ومالية، كما أنه يمكن التلويح لها بالمساعدة على تنفيذ السد العالى الذى أصبح يحتل مكان الصدارة بالنسبة للقيادة المصرية وللشعب المصرية.
4 ــ إن الولايات المتحدة يجب أن تكون جاهزة لاستغلال هذه الفترة الحساسة بمشروع كامل لتحقيق السلام، أو على الأقل لقطع شوط كبير منه تستحيل العودة عنه، وذلك قبل إتمام انسحاب القوات البريطانية عن قاعدة قناة السويس.
والحاصل أنه بالرغم من صعوبة المفاوضات بين مصر وبريطانيا، فإن البلدين توصلا إلى اتفاق على الجلاء، وقعه جمال عبدالناصر بوصفه رئيسا للوزراء مع أنتونى ناتنج وزير الدولة للشئون الخارجية فى بريطانيا. وأعلن ذلك الاتفاق فعلا فى يوليو 1954، وكانت الولايات المتحدة بالفعل عنصرا مساعدا أساسيا فى التوصل لهذا الاتفاق. وكان اتفاق الجلاء فى يوليو يعطى مهلة لإتمام الانسحاب مدتها ثمانية عشر شهرا، وكانت هذه بالضبط هى فرصة النافذة المفتوحة أمام دالاس. ولم يضيع وقتا وإنما انهمكت مجموعة من خبرائه، وعلى رأسهم فرانسيس راسل الذى عين مساعدا خاصا له فى وضع مشروع كامل وتفصيلى لخطة تحقيق سلام بين العرب وإسرائيل. وكانت تلك هى الخطة التى اشتهرت بالاسم الرمزى «ألفا».
إن الخطة «ألفا» ما لبثت أن أصبحت عملية دقيقة إلى درجة استدعت وضعها تحت الاختصاص المباشر لمجلس الأمن القومى فى البيت الأبيض. واستغرق وضع خطوطها ثلاثة شهور، ثم جرت مناقشتها بواسطة ممثلين عن المخابرات المركزية الأمريكية ووزارة الدفاع ووزارة الخزانة، ثم صيغت نهائيا طبقا لتوصيات كل جهات الاختصاص. وكان البلد الوحيد خارج الولايات المتحدة الذى دخل فى إطارها هو بريطانيا بحكم أنها شريط أساسى فى الشرق الأوسط، ثم إن نافذة الوقت المتاحة للفرصة متصلة بجلاء القوات البريطانية عن قاعدة قناة السويس.
كان الملحق «ب» فى الخطة «ألفا» على سبيل المثال يركز على «المغريات والعناصر السيكولوجية» التى تضمن قبول مصر للخطة «ألفا». وقد ورد فيه ما يلى بالنص:
1 ــ «إن مصر أبدت رغبتها بإلحاح فى الوصول معنا إلى صفقة سلاح. ويمكن لنا فى فترة الخطة أن نصل إلى اتفاق معها بإعطائها تصريحات مصحوبات بضمانات ائتمانية لشراء سلاح طبقا للبند 106 ب من قانون الأمن المتبادل. ويمكن أن يكون الاتفاق على ثلاث سنوات. ويمكن أن نصل بحجمه إلى 20 مليون دولار، على أن نوضح لحكومة مصر أننا سوف نتابع تصرفاتها فى فترة المفاوضات. وقد نرفع حدود الصفقة إذا وجدنا أن التصرفات المصرية فى هذه الفترة متماشية مع سياساتنا. ويمكن لنا أن نلاحظ أن موقف جمال عبدالناصر بعد اتفاقه مع بريطانيا سوف يتعرض لانتقادات لأن هناك من الوطنيين من يطلبون أكثر. فإذا كان عرض المساعدات العسكرية مطروحا على الفور فى أعقاب الاتفاق مع بريطانيا، فإن ناصر قد يجد لذلك جاذبية تغريه. وليس لنا أن نخشى من اعتراض إسرائيلى على تسليح ناصر لأنه إذا توافق حصوله على السلاح مع استعداده للصلح مع إسرائيل فإن مخاوف إسرائيل حينئذ تصبح غير مبررة».
2 ــ «إن ناصر لديه برنامج تنمية يحتاج إلى خبراء. فإذا عرضنا عليه بعثات أكثر فى الجامعات الأمريكية لشباب مصرى، فإن ذلك قد يضع قطعة سكر إضافية فى فمه. ثم إننا أيضا نستطيع أن نجد أماكن فى الكليات العسكرية لعدد من ضباطه الذين يجب أن يتدربوا على السلاح الأمريكى الذى ستحصل عليه بلادهم».
3 ــ «ونظرا إلى أن مشروع السد العالى تتزايد أهميته اقتصاديا ومعنويا فى مصر، فإننا نستطيع أن نتقدم إلى الكونجرس بطلب اعتماد مبلغ محدد يخصص للمساعدة فى تمويل السد العالى فور انتهاء الدراسات الهندسية اللازمة، ونستطيع أن نتقدم للكونجرس بطلب اعتماد قدره 20 مليون دولار فى المرحلة الأولى، وحتى نتغلب على أى تردد من جانب ناصر».
4 ــ «إذا بدا أنه مستعد للقبول فإننا نستطيع إقناعه بمواصلة الطريق بالبحث فى إمكانية تقديم 20 مليون دولار كل سنة لمدة خمس سنوات من البنك الدولى تخصص للسد العالى».
5 ــ «إن مصر لديها طموحات فى مجالات مختلفة للتحديث. ونحن نستطيع المساعدة فى توسيع معمل للنظائر المشعة يجرى بناؤه فى مصر فعلا. وكذلك نستطيع أن نقدم برنامجا للتدريب فى المجالات النووية، ويمكن أن نضيف إليه فيما بعد مفاعلا نوويا».
6 ــ «نستطيع أن نعرض على ناصر ــ فى ظرف ملائم ــ إمكانية تزويد بلاده بكميات من فوائض القمح الأمريكى».
7 ــ «نستطيع مساعدة مصر فى تسويق محصولها من القطن، ويمكن أن نسمح لها بحصة أكبر فى السوق الأمريكية».
وبعد أخذ ورد بين المشاركين فى الخطة، يورد هيكل: تدخل دالاس ليقول بالنص: «إن ناصر لا ينبغى السماح له بأن يتصور أن فى مقدوره أن يقول لا. وإذا قالها فإننا سوف نتصرف بما يجعله يقول نعم».
ويواصل المؤلف: ويبدو أن دالاس ظل غير مقتنع بفكرة مفاتحة عبدالناصر أولا، وهكذا فإنه بعث برسالة منه إلى رئيس وزراء إسرائيل «شاريت» يوم 14 فبراير 1955 يقول فيها: «لقد مضى وقت منذ أن أبلغنى السفير أبا إيبان بقلقك من استمرار شعور إسرائيل بالعزلة وعدم الأمان، وقد طلبت منه أن يبلغك بتعاطفى مع مشكلته وعزمى على إعطائها أكبر قدر من الاهتمام. وأنا أبعث إليك بهذه الرسالة لكى تعرف أن المشكلة تحصل على اهتمامى الكامل، وإننا نقوم بدراسة كل الاحتمالات الملائمة والعملية التى يمكن للولايات المتحدة أن تقوم بها...».
وكان دالاس يعرف أن وزير الخارجية البريطانى أنتونى إيدن فى طريقه إلى القاهرة، كما أنه اطلع على نقاط مقترحة لحديثه المنتظر مع جمال عبدالناصر، أعدتها وزارة الخارجية وكانت تحتوى على خمسة بنود: البند الأول يطلب من إيدن أن يقول لجمال عبدالناصر: «إننى أعرف أنك مهتم بالضرر الناشئ عن وجود توتر مستمر بين الدول العربية وإسرائيل. وأنا على اطلاع بما قاساه اللاجئون العرب. ثم إننى متخوف من احتمال أن يستغل السوفيت مخاوفكم من إسرائيل ومأساة اللاجئين الفلسطينيين، ثم يجدون ثغرات ينفذون منها إلى تقويض مجتمعاتهم»، والبند الثانى يطلب من إيدن أن يقول لعبدالناصر: «إن حكومة صاحبة الجلالة الملكة تتمنى أن ترى مصر قوية وذات نفوذ فى شرق البحر الأبيض، وإنها تتابع بإعجاب جهوده لتنمية بلاده، وكذلك تتابع الولايات المتحدة، وكلاهما على استعداد للمساعدة. لكن استمرار الصراع مع إسرائيل سوف يؤثر على مقدار ما تستطيع الحكومتان أن تقدماه إلى مصر. وإنك سمعت بنفسك من دالاس أنه إذا تعاونت مصر فى سبيل حل الصراع مع إسرائيل فإن الولايات المتحدة سوف تكون مستعدة لرعاية مستقبل مصر. والبند الثالث يطلب من إيدن أن يدغدغ كبرياء عبدالناصر وغروره بأن يقول له إنه سمع عنه كثيرا من كل الذين قابلوه، وبينهم زميله فى الوزارة أنتونى ناتنج وبينهم أيضا إريك جونستون (مبعوث الرئيس الأمريكى فى مشروع استغلال نهر الأردن) وإن عمله من أجل تسوية للصراع العربى الإسرائيلى سوف يرفعه إلى مقام رجل دولة عالمى. والبند الرابع يعطى إيدن مجموعة الحجج التى يمكن أن يستعملها للضغط على عبدالناصر إذا أحس بتردده. والبند الخامس يعطى إيدن مفاتيح يتصرف بها لفتح الأبواب إذا وجد أن جمال عبدالناصر لديه الاستعداد.
يعود هيكل ليقول: لم تنجح زيارة إيدن رغم كل ترتيبات وزارة الخارجية البريطانية. وعندما التقى أنتونى إيدن مع جون فوستر دالاس فى بانكوك حيث كانا يحضران اجتماعا لحلف جنوب شرق آسيا، استمع دالاس من زميله البريطانى إلى تفاصيل ما دار بينه وبين جمال عبدالناصر. وكان تعليق إيدن أنه يشعر أن رئيس وزراء مصر «يسعى لزعامة العالم العربى». وكان تعليق دالاس كما كتبه بنفسه هو: «إننى قلت لإيدن إننا على استعداد لأن نؤيد ناصر فى طلبه لزعامة العالم العربى، ولكن ذلك لن يحدث قبل أن يعقد سلاما مع إسرائيل».
وكان السفير الأمريكى الجديد هنرى بايرود قد وصل إلى القاهرة ليبدأ مهمته الكبيرة فى عرض الخطة «ألفا». لكنه حين وصل كانت القاهرة فى حالة توتر شديد بسبب الغارة الشهيرة على غزة، فقد قام الجيش الإسرائيلى بمهاجمة مواقع مصرية، وقتل 22 جنديا مصريا.
كتب هنرى بايرود تقريره الأول من القاهرة بتاريخ 4 مارس 1955 (وثيقة رقم 455 ــ 3/86 أ 684). وفى هذا التقرير فإن بايرود ــ السفير فوق العادة إلى القاهرة والمكلف بتمرير الخطة ألفا ــ شرح الجو السائد الذى وجده عند وصوله إلى مصر فى أعقاب الغارة على غزة، كما وصف رد الفعل التى وجدها فى انتظاره. ورأى أن يبدأ تقريره بعرض لبعض عناوين الصحف لكى يظهر لدالاس حدة المشاعر فى مصر. ثم وصل إلى النقطة المركزية التى أراد أن يستهل بها مهمته فى الظروف المتغيرة التى وجدها أمامه، فقال: «إن وزارة الخارجية لابد أن تكون على علم بما تمثله هذه الأجواء الغائمة بالنسبة للخطة ألفا، واعتقادى أن جدول توقيتاتنا يستحق إعادة النظر فيه، لأننى لا أستطيع بسرعة أن أبدأ اقترابى من طرح ألفا».

معركة «باندونج»
وكانت «باندونج» قد أصبحت معركة سياسية مع إسرائيل من وراء ستار. فدول مجموعة «كولومبو» التى رتبت من الأصل لعقد مؤتمر الشعوب الآسيوية ـــ الإفريقية، لم تكن تستبعد اشتراك إسرائيل فيه باعتبارها دولة آسيوية. وكانت بورما إحدى دول مجموعة كولومبو، وكان «أونو» رئيس وزرائها صديقا لـ«شاريت» و«بن جوريون» ومن المعجبين بحركة المستعمرات فى إسرائيل، بحسبها تجربة اشتراكية ناجحة.
وهكذا فإن أونو وضع إسرائيل ضمن قائمة الدول المرشحة لحضور مؤتمر «باندونج» وكان الذى تولى إخطار جمال عبدالناصر بذلك هو رئيس وزراء الهند «نهرو». واعترض جمال عبدالناصر. وكان رأى نهرو أن الجغرافيا تقول إن إسرائيل دولة آسيوية، وإنه يستحيل استبعادها إلا إذا كان هناك سبب يقنع الداعين والمدعوين بقبول استبعادها. وراح جمال عبدالناصر يشرح طبيعة الدولة اليهودية من يوم أنشئت. وبدا أن نهرو مقتنع، لكن أونو الذى سمع منه باعتراضات عبدالناصر، أبدى عدم اقتناعه بمنطق «أن حضور المؤتمر ليس شهادة بحسن سير وسلوك الدول والنظم، وإنما هو بوجودها الشرعى والقانونى». واتصل جمال عبدالناصر بأونو مباشرة يقول له «إن وجود أساس شرعى وقانون لأى دولة لابد أن يكون ضمن حدود مقبولة ومعترف بها. والحدود التى رسمها المجتمع الدولى لإسرائيل هى حدود التقسيم، لكن إسرائيل تخطت هذه الحدود بالعدوان، وهذا ثابت من قرارات متصلة للجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن». وبعث أونو يسأل «هل أفهم من ذلك أنكم لا تمانعون فى حضور إسرائيل إلى باندونج إذا هى اعترفت بخطوط التقسيم؟». وبعث إليه جمال عبدالناصر بأنه «إذا اعترفت إسرائيل بخطوط التقسيم والتزمت بها عملا وتقدمت بخريطة نهائية لحدودها على هذا الأساس، فإنها بالقطع تصبح مهيأة لحضور مؤتمر باندونج، وتثبت فوق ذلك أنها مستعدة للسلام فى الشرق الأوسط». وقام أونو باتصالاته مع أصدقائه فى إسرائيل يطلب اعترافا منهم بقرار التقسيم وبخريطة نهائية لحدود بلدهم. ولم تستجب إسرائيل، وتراجع أونو عن إصراره على دعوتها.
واعتبر استبعاد إسرائيل من مؤتمر «باندونج» هزيمة سياسية كبرى. وراح بن جوريون يحاول أن يلقى مسئوليتها على رئيس الوزراء شاريت، رغم أن بن جوريون نفسه شارك فى الاتصالات مع أونو.
ويوم 5 أبريل 1955، ومؤتمر «باندونج» على وشك أن يبدأ أعماله فى تلك المدينة الخضراء الجميلة فى أندونيسيا، قام موشى شاريت باستدعاء لوسون السفير الأمريكى فى إسرائيل ليقول له «إن الضغوط تتزايد عليه وإن بن جوريون وأصدقاءه يشددون الحصار حوله وإن المخرج الوحيد هو أن تقوم الحكومة الأمريكية بترتيب اجتماع على مستوى عال بيننا وبين مصر». وأبدى استعداده للقاء جمال عبدالناصر سرا فى أى بلد أو مطار يمكن أن يمر عليه فى آسيا عائدا من أندونيسيا.
فى يوم 5 مايو 1955 كتب بايرود لوزير الخارجية الأمريكى جون فوستر دالاس يقول له» إنه قرر أن يفاتح ناصر مباشرة فى شأن الخطة ألفا، وهو يريد أن يعرضها عليه بطريقة عفوية. ولهذا فإنه لن يطلب موعدا معه، وإنما سوف ينتظر حتى يطلبه ناصر، وهو يعرف أن ذلك سيحدث بعد أن تراكمت مسائل كثيرة أثناء غيبته لعدة أسابيع عن مصر». «غيبة عبدالناصر فى رحلته إلى باندونج».
وصح ما توقعه بايرود، فقد دعاه عبدالناصر بالفعل إلى لقائه بعد أسبوعين من عودته إلى مصر قادما من أفغانستان التى كانت نهاية رحلته الآسيوية بعد مؤتمر «باندونج». لكن عبدالناصر كان لديه ما يقوله لبايرود الذى كتب تقريرا إلى وزير الخارجية عن هذا اللقاء قال فيه: «دعانى ناصر إلى لقائه قبل ساعات، وسألنى غن كنت قد تلقيت ردا منكم عن طلب بشراء سلاح أمريكى تقدموا به إلينا من فترة طويلة، ثم جددوا الطلب وألحوا عليه بعد غارة غزة. ووجه لى سؤالا محددا سألنى به: هل تستطيع مصر شراء سلاح أمريكى أم لا؟ (...) وخلال مناقشة طويلة تلك ذلك قال جمال عبدالناصر إن أمامه فرصة للحصول على سلاح سوفيتى، وهو يدرك أن ذلك سوف يثير مشاكل، لكنه سيجد نفسه مضطرا إذا لم يستطع الحصول على سلاح أمريكى. فالغارة على غزة أثبتت فى رأيه أن مصر مكشوفة أمام السلاح الإسرائيلى، وإنه شخصيا يعرف أحد الضباط الذين قتلوا فى الغارة، وقد مشى فى جنازته. وكان تفكيره طوال الوقت أن قواته يجب أن تكون مستعدة للدفاع عن نفسها. ثم طلب منى ناصر بصرف النظر عن تفكيرى الشخصى أن أنقل طلبه إلى واشنطن وأن أذكر بصراحة أنه كان ينوى شراء سلاح من الاتحاد السوفيتى. وأنا أعرف من مصادر خاصة أنه فى انتظار أن يتحدث معى قام بتأخير سفر بعثة عسكرية مصرية إلى موسكو للبحث فى صفقة سلاح مع الاتحاد السوفيتى. وبدا لى أن ناصر ليس لديه أمل كبير فى أننا سوف نستجيب لطلبه».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved