قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل:مصر تتفاوض مع العدو عند «الكيلو 101 » (12)
آخر تحديث: الأحد 2 نوفمبر 2014 - 5:52 م بتوقيت القاهرة
عرض ــ خالد أبوبكر
- السادات اندفع لقبول التفاوض المباشر مع الإسرائيليين خوفا من الانقلاب عليه بسبب حصار الجيش الثالث
- الجمسى بعد لقائه الثانى مع «تال»: إسرائيل تريد تصفية مكاسبنا العسكرية والتفاوض من مركز قوة
- أمريكا عرضت قبل الحرب انسحابا إسرائيليا بعمق 40 كيلو ..والسادات عرض بعد الحرب انسحابًا بعمق 30 كيلو
- قصة «الوثيقة العجيبة» التى منحها كيسنجر للسادات بشأن عدم شن إسرائيل هجوما جديدا فى الغرب
- الرئيس يرفض الرد على خرق إسرائيل لوقف إطلاق النار لأنه لا يريد «لخبطة الغزل»
بعد أن استهل الكاتب الصحفى الكبير، محمد حسنين هيكل، الجزء الثالث (منحنى على الطريق) من كتابه «أكتوبر 73ـــ السلاح والسياسة» بما أطلقنا عليه «وقفة تعبوية» أعاد فيها تقييم الحوادث والفرص المتاحة أمام صانع القرار المصرى بعد انتهاء 20 يوما من القتال (6ــ26 أكتوبر) على جبهة قناة السويس مع العدو الإسرائيلى، وبعد أن أجرى «تقديرا للموقف» اشتمل على تقييم أوضاع العدو وقواتنا على جبهات السلاح والسياسة، واصل تفنيده لمجرى الحوادث بعد أن هدأت نسبيا لعلعة الرصاص وقصف المدافع وأزيز الطائرات، وبعد أن انتقل المجهود الرئيسى للصراع إلى الأروقة السياسية.

غلاف كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» للكاتب الصحفى الكبير محمد حسنين هيكل
وفى ختام الفصل الأول من هذا الجزء الثالث من الكتاب ــ الصادر عن دار «الشروق» ــ يؤكد «الأستاذ» على أن الرئيس أنور السادات لم يعط نفسه الفرصة، وربما أيضا أن الظروف لم تمنحه الفرصة، للتفكير بما فيه الكفاية فى المرحلة المقبلة (من الصراع) وكان العنصر الضاغط عليه هو وضع الجيش الثالث وخوفه من محاصرته.
يرى الكاتب الكبير أن السادات فى ذلك الوقت «استولت عليه فكرة غريبة مؤداها أن الجيوش المحاصرة تتحول إلى بؤر لصنع الانقلابات على السلطة القائمة، وكانت فى ذهنه تجربة جمال عبدالناصر فى حصار الفالوجة سنة 1948. والواقع أن الظروف كانت مختلفة، لكن العبرة هنا ليست بحقائق الأمور، وإنما بالنظر إليها من موقع أصحابها.. ولعل موقف الجيش الثالث، وهواجس الرئيس عن الجيوش المحاصرة، هو الدافع الذى جعله يقبل على عجل اقتراح إسرائيل عن طريق هنرى كيسنجر (وزير خارجية الولايات المتحدة) بالبدء على الفور فى محادثات مباشرة عسكرية مع إسرائيل عند الكيلو 101 من طريق السويس».
ويواصل بأن السادات طلب إلى وزير الدولة المهندس عبدالفتاح عبدالله أن يتصل باللواء محمد عبدالغنى الجمسى، رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة، وأن يطلب إليه «فتح خط اتصال مع الجنرال أهارون ياريف، رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية الذى تقرر أن يرأس وفد المفاوضات العسكرية من الجانب الإسرائيلى فى محادثات الكيلو 101.
وفوجئ الجمسى بالطلب، ولم يعرف لماذا وقع الاختيار عليه لمقابلة ياريف، ثم قابله السادات بعد ذلك وأقنعه بقوله «إنه كمدير للعمليات يعرف أكثر من أى ضابط آخر فى الجيش أين كان بالضبط موقع 22 أكتوبر عندما لم يكن هناك خطر حصار على الجيش الثالث».
ثم أضاف السادات للجمسى: «لاحظ أن ياريف هو رجل موشى ديان (وزير الدفاع الإسرائيلى)، وديان على خلاف مع جولدا مائير (رئيسة الوزراء)، وعليك أن تسعى إلى تعميق التناقض بين الاثنين». وكان الجمسى متأذيا من المهمة كلها، ولعله لم يتنبه فى البداية إلى ملاحظة السادات فى ذلك الوقت، لكن الرئيس عاد فأكدها وأبرز أهميتها وما يعلقه من آمال عليها!
ويستطرد الكاتب الكبير بأن ترتيبات اللقاء عند الكيلو 101 كانت تسير فى مجراها، وكتب حافظ إسماعيل، مستشار الرئيس للأمن القومى، رسالة منه إلى كيسنجر على القناة السرية، نصفها عن ترتيبات اللقاء، ونصفها عن أوضاع الجيش الثالث (منشور نصها فى الكتاب). ومما جاء فيها «أن الحكومة المصرية على استعداد لإيفاد ممثل للقوات المسلحة المصرية برتبة اللواء للاتصال بمندوب عسكرى إسرائيلى من نفس الرتبة، ومن المفهوم أن كلا منهما سوف يكون برفقته عدد مناسب من المساعدين. وسوف يجتمعون تحت إشراف الأمم المتحدة، سعت 15.000 بتوقيت القاهرة المحلى، فى الكيلو 101 على طريق القاهرة السويس، وسوف يوضع مكان اجتماعهم تحت إشراف قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وسوف يكون الغرض من الاجتماع بحث النواحى العسكرية فى تنفيذ قرارى مجلس الأمن رقمى 338 و339 بتاريخ 22 و23 أكتوبر 1973».
وتحت عنوان «عند الكيلو 101» جاء الفصل الثانى من الجزء الأخير من «أكتوبر 73 السلاح والسياسة»، ويؤكد «الأستاذ» فى بداية هذا الفصل على أن «العالم العربى كان مفاجأ وبشدة عندما عرف من وسائل الإعلام الدولية والمحلية أن هناك مفاوضات مباشرة بين مصر وإسرائيل سوف يقوم بها وفدان عسكريان يلتقيان عند الكيلو 101 من الطريق بين السويس والقاهرة.
كان مبعث الدهشة أن المعارك لم تنته بعد على جبهة القتال ثم إن هذه المباحثات المباشرة لم تكن لها سابقة فى الصراع العربى الإسرائيلى. وكانت الحيرة هى الشعور السائد لدى جماهير الناس فى القاهرة وفى كل العواصم العربية، ولم يكن فى مقدور أحد أن يتجاوز الشعور بالحيرة إلى التوجس بالشك، لأن وهج المعارك كان لايزال مضيئا على الآفاق، وكان الفاصل بين الدهشة والشك خيطا رفيعا، لأن العواصف كانت جياشة وتقلبات الحرب كانت مثيرة للدوار فى بعض مراحلها».
ويؤكد «الأستاذ» على أن الطريق إلى الكيلو 101 لم يكن سالكا حتى على الأرض، فضلا عن مشاعر الناس، فبدأ الوفد العسكرى المصرى برئاسة الجمسى رحلته إلى الموقع المحدد للقاء، فإذا القوات الإسرائيلية تعترضه قبل عدة كيلو مترات من مكان الاجتماع، وعاد الوفد إلى القاهرة يبلغ السادات بما حدث، ونشطت القناة السرية ودبت فيها الحياة مرة أخرى، وكتب السادات إلى الرئيس الأمريكى نيكسون رسالة (منشورة فى الكتاب) يشكو فيها من السلوك الإسرائيلى مع الوفد المصرى، وجاء الرد من نيكسون وكيسنجر بتذليل الصعوبات.
4 لقاءات
يقول «الأستاذ» إن «اللقاء الأول بدأ عند الكيلو 101 بعد منتصف الليل يوم 28 أكتوبر 1973، ومنذ الدقيقة الأولى فى الاجتماع، حاول الجنرال ياريف أن يكون مهذبا، كما أن اللواء الجمسى حاول أن يكون مجاملا طبقا للتوجيهات الصادرة إليه من السادات بأن «يفتح خطا مباشرا مع ياريف، وأن يحاول عن طريقه تعميق التناقضات بين جولدا مائير وديان».
وكان واضحا برغم أدب ياريف من ناحية، ومجاملة الجمسى من ناحية أخرى أن المسائل أعقد مما بدا فى القاهرة، ومما أوحت به رسائل كيسنجر بما فيها تلك الرسالة التى نقلها عن الحكومة الإسرائيلية (التى رحبت فيها بمفاوضات مباشرة مع مصر)
كان الهدف المقرر للاجتماع أصلا، وبنصوص الوثائق الدولية التى مهدت لانعقاده، هو:
ــ تحديد خطوط وقف إطلاق النار يوم 22 أكتوبر وهى خطوط لم يكن فيها الجيش الثالث محاصرا أو قريبا من حالة حصار.
ــ بحث وسائل تموين الجيش الثالث بالاحتياجات اللازمة له، حتى يتم الاتفاق على تحديد خطوط 22 أكتوبر، ومن ثم ينفصل الفرعى فى المشاكل عن الأصلى منها.
ومع ذلك فقد كان أهم ما قاله ياريف فى الاجتماع هو ما ذكره صراحة من أنه «ليست لديه أى صلاحية لبحث موضوع خطوط 22 أكتوبر، ولا مشاكل تموين الجيش الثالث، فيما عدا قافلة واحدة سبق عليها اتفاق سياسى من قبل». ويوجد بالكتاب المحضر الرسمى الكامل للجلسة (كما كتبه وقدمه الجمسى) يروى القصة كاملة.
ولسبب ما ــ بحسب «الأستاذ ــ كان السادات فى عجلة من أمره؛ فالوفد العسكرى المصرى برئاسة الجمسى عاد من اللقاء الأول عند الكيلو 101 مع الجانب الإسرائيلى عند فجر يوم 29 أكتوبر، لكنه عند الظهر من نفس اليوم عاد إلى هناك لاجتماع ثان فى أقل من 24 ساعة، وكانت هناك تعليمات مشددة للواء الجمسى بأن «يفتح أكثر مع ياريف»، وبالفعل، فإن اللواء الجمسى طلب أن يجتمع على انفراد بالجنرال ياريف لكى يمكن أن يدور حديث شخصى مباشر بين رجل ورجل. ومع ذلك فإن ياريف فى هذا الاجتماع المنفرد عاد فكرر ما قاله فى الاجتماع العام، وأهم ما فيه هو «طلب لقاء سياسى على مستوى عالٍ بين مصر وإسرائيل، وأن هذا وحده هو السبيل إلى حل المشاكل». ثم أضاف «ياريف» إلى ذلك طلبا محددا أظهر أنه تهمه الاستجابة إليه دون أن يفصح أكثر، وهو الإفراج عن أسير إسرائيلى اسمه «دان أفيدان شمعون».
وبجانب نص المحضر الرسمى للجلسة (منشور بالكتاب) رأى الجمسى أن يرفق مع المحضر الرسمى للجلسة ملحقا يعطى فيه انطباعاته خصوصا فيما يتعلق باللقاء المنفرد بينه وبين ياريف، وكتب الجمسى تحت عنوان «التعليق» ما نصه:
ــ نرى أن الموقف الإسرائيلى وإن كان يبدى المرونة فإنه يسعى إلى الإبقاء على الوضع العسكرى الحالى للجيش الثالث حتى يستثمره فى المباحثات السياسية المقترحة.
ــ هناك اتفاق على فكرة فض الاشتباك من ناحية المبدأ، والفرق بين وجهتى النظر هو:
أــ وجهة النظر الإسرائيلية تهدف إلى تصفية المكاسب العسكرية المصرية والتفاوض من مركز القوة.
ب ــ وجهة نظرنا تعنى الاحتفاظ بمكاسبنا العسكرية وثقلها على الجانب السياسى مع تقليل قيمة وجود العدو فى الغرب، وعلى ضوء المناقشات السياسية المقترحة يمكن الوصول إلى الوضع العسكرى الذى ستبدأ منه المفاوضات للوصول إلى حل نهائى للأزمة، ويعتبر لهذه الخطوة أهمية خاصة بالنسبة للطرفين من وجهة النظر العسكرية والسياسية.
ــ يربط الجانب الإسرائيلى استمرار إمداد الجيش الثالث بالتبادل الكامل للأسرى، بينما يربط الجانب المصرى التبادل الكامل للأسرى بعودة القوات الإسرائيلية إلى منطقة ما حول الدفرسوار وإخلاء منطقة السويس، ولذلك يجب حل الموضوعات الثلاثة (استمرار امداد الجيش الثالث ــ عودة القوات الإسرائيلية إلى منطقة الدفرسوار ــ التبادل الكامل للأسرى) فى صفقة سياسية واحدة.
ــ تحسنت بلقاء اليوم معدلات تدفق قول امدادات الجيش الثالث. ويحتمل باستمرار الاتصالات السياسية والعسكرية ان تكون هناك فرصة أفضل لمزيد من الامداد.
ــ نقترح الآتى:
أــ الموافقة على إعطاء المباحثات صفة سياسية.
ب ــ الموافقة على تبادل الأسرى الجرحى مقابل حصولنا على أسرانا الجرحى، وإخلاء جرحى الجيش الثالث من رأس الكوبرى الذين فى حاجة إلى رعاية طبية أفضل.
ج ــ تسليم دان أفيدان شمعون كدعم شخصى للجنرال ياريف والتيار الذى يمثله.
د ــ أن يتم الاجتماع الثالث فى أسرع وقت ممكن، علما بأن تحديد الموعد والمكان متروك لنا.

الوفد المصرى برئاسة الجمسى مع الوفد الإسرائيلى فى مفاوضات الكيلو 101
ويرى «الأستاذ هيكل» أنه «ربما كان أهم ما فى هذا التعليق من وجهة نظر اللواء الجمسى هو اقتراحه بـ«الموافقة على اعطاء المباحثات صفة سياسية»، ولعل الجمسى بهذه الفقرة من تعليقه كان يريد أن ينقل الموضوع كله من اختصاصه إلى اختصاص غيره، ولكن السادات قرأ محضر الجلسة وقرأ تعليق الجمسى بعدها، واتخذ قرارا بإعلان تعيين الجمسى مساعدا لوزير الحربية للشئون السياسية، ولم تكن هذه هى القضية، فالمسميات هى جسم الحقيقة، والأسماء أردية ظاهرة. ثم إن أحدا لم يتوقف ليتذكر أنه إذا تحولت صفة اللواء الجمسى من عسكرى إلى سياسى، فإن صفة الجنرال ياريف لم تتغير، وسوف يكون أسهل الأشياء عليه أن يقول للواء الجمسى إن «محادثاتهما مازالت تحتاج إلى تصحيح لاختلاف وصف كل طرف من طرفيها»!
مشروع لفض الاشتباك
يواصل الكاتب الكبير حديثه بشأن المفاوضات المباشرة الأولى بين مصر وإسرائيل، فيقول: «عاد اللواء محمد عبدالغنى الجمسى إلى اجتماعات الكيلو 101 على طريق السويس لاجتماعه الثالث مع ياريف يوم 30 أكتوبر وكان الداعى للاجتماع هو الجانب المصرى تحت صفة جديدة هذه المرة «الوفد السياسى العسكرى المصرى»، وحمل هذا الوفد معه إلى الاجتماع هدية أو عربون حسن نية هو الملازم «دان أفيدان شمعون»، كما أن الوفد بصفته السياسية حمل معه مشروعا لفض الاشتباك بين القوات المصرية والقوات الإسرائيلية يقضى بـ:
1ــ انسحاب القوات الإسرائيلية لمسافة ثلاثين كيلو مترا من شرق القناة.
2ــ تحل قوات من الأمم المتحدة فى منطقة عازلة بين الطرفين.
3ــ إمكان البحث فى حجم وتسليح القوات المصرية التى ستبقى فى الخطوط الحالية فى الضفة الشرقية.
ويعلق «الأستاذ» على هذا المشروع بقوله «كان ذلك أقل بكثير مما كانت تجرى مناقشته قبل الحرب حين كان وزير الخارجية الأمريكى ويليام روجرز يعرض انسحابا إسرائيليا عمقه 40 كيلو مترا، بينما كان الرئيس السادات يصر على انسحاب يصل إلى ما وراء العريش» (يوجد بالكتاب محضر الاجتماع الثالث بين الجمسى وياريف».
ويوم أول نوفمبر كان الطرف الإسرائيلى هو الذى يطلب اجتماعا عند الكيلو 101. وبدأ الاجتماع عند الظهر تماما، واستمر حتى الساعة الثالثة بعد الظهر، وكان الذى يرأس الوفد الإسرائىلى هذه المرة هو الجنرال يسرائيل تال نائب رئيس الأركان ومدير العمليات، ومن الواضح أن الهدف من مجىء تال كان إبلاغ اللواء الجمسى فى حديث خاص بين الاثنين بعيدا عن مائدة الاجتماع العام بأن المشروع المصرى لفك الاشتباك بين مصر وإسرائيل، والذى عرضه الجمسى على ياريف فى الجلسة الماضية «يجرى الآن بحثه جيدا، وقد تم عرضه على السلطات السياسية، بما فى ذلك رئيسة الوزراء، وسيتخذ قرار سياسى فى الموضوع فور عودتها من أمريكا» (مرفق بالكتاب نص محضر الجلسة الرابعة من محادثات الكيلو 101 بين الجمسى وتال».
زيارة إلى واشنطن
يقول «الأستاذ» إنه «مع مطالع شهر نوفمبر 1973 كان الزحام شديدا بين التحركات والتوجهات والخطط والأفكار، ويفند ذلك على النحو التالى:
ــ كانت هناك محادثات الكيلو 101، وفيها قدم الوفد السياسى العسكرى المصرى برئاسة اللواء محمد عبدالغنى الجمسى مشروعا لفك الارتباط.
ــ وكانت جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل قد هرعت إلى واشنطن لمقابلة مع الرئيس نيكسون ومع هنرى كيسنجر بالطبع.
ــ وكان كيسنجر يستعد لأول زيارة يقوم بها إلى العالم العربى.
ــ وكان السادات قد قرر إرسال وزير خارجيته الجديد إسماعيل فهمى إلى واشنطن ليقابل نيكسون وكيسنجر، وليواجه أية ضغوط تكون جولدا مائير قد ركزتها على واشنطن فى هذه الفترة الحرجة والحساسة، وليبحث أيضا فى موضوع عودة العلاقات الدبلوماسية بين مصر والولايات المتحدة.
ــ وكانت العواصم السياسية فى العالم العربى مشدودة تحاول أن تتابع ما يجرى على الساحة، والشائعات والأقاويل كثيرة، والحقائق الموثوق بها قليلة، والكل ينتظر.
ــ وكان الرأى العام العربى ضائعا وسط هذا الخضم من التطورات التى بدت مفاجئة وتسارعت وتائرها حتى لم يعد فى مقدور أحد أن يتابع فضلا عن أن يفهم.
ويروى الكاتب الكبير أن الترتيب لزيارة إسماعيل فهمى إلى واشنطن كان قد بدأ برسالة على القناة السرية من حافظ إسماعيل إلى كيسنجر (منشورة بالكتاب) بدأت بالشكوى من الإسرائيليين فى البند الأول، وانتهت بزيارة إسماعيل فهمى إلى واشنطن فى البند الثالث.
ومساء يوم وصوله إلى واشنطن (30 أكتوبر) التقى فهمى كيسنجر فى المقابلة التمهيدية التى أرادها، وكتب بعد انتهائها تقريرا عنها إلى السادات (منشور بالكتاب).

ويواصل «الأستاذ» بأنه فى اليوم التالى كان إسماعيل فهمى على موعد مع الرئيس نيكسون، وخطر له أن يطلب «ضمانا كتابيا من الولايات المتحدة تتعهد فيه بعدم قيام إسرائيل بأى عمليات عسكرية فى أى صورة فى الضفة الغربية (من قناة السويس) حتى يمكن الانتقال إلى مرحلة فك الارتباط Disengagement». وكان فهمى قد أشار إلى هذا المطلب فى نهاية مقابلته مع كيسنجر فى اليوم السابق، وأبدى كيسنجر استعداده لقبول الفكرة التى راقت للسادات حينما علم بها (وطلب إلى فهمى أن يحصل على هذا الضمان الكتابى من الولايات المتحدة قبل أن يغادر واشنطن). وكتب فهمى تقريرا عن مقابلته للرئيس الأمريكى (منشور نصه بالكتاب).
قبل أن ينتهى الكاتب الكبير من مسألة «الضمان الكتابى من الولايات المتحدة» يعود إلى الجبهة مرة أخرى ــ ربما ــ ليوضح مبرر طلب هذا الضمان، فيقول: «كانت القوات المصرية تواجه مواقف صعبة على خطوط القتال؛ فالأوامر الصادرة إليها من ناحية تطلب منها مراعاة قرارات وقف إطلاق النار الصادرة عن مجلس الأمن، خصوصا أن محادثات الكيلو 101 تحت إشراف اللواء الجمسى مازالت جارية، وزاد عليها أن الاتصالات نشطت فى واشنطن بواسطة وزير الخارجية الجديد إسماعيل فهمى.
وكانت المشكلة أن القوات الإسرائيلية لم تعتبر قرارات وقف إطلاق النار قيدا عليها، وإنما اعتبرتها فرصة لها، وعندما كان قادة التشكيلات المقاتلة يطلبون من القيادة المصرية أن تعطيهم الفرصة للعمل ضد الإسرائيليين بما هو أكثر من مجرد الدفاع الثابت وعندما كانت القيادة تعيد توجيه هذه الطلبات إلى السادات فإن الرد كان يجىء دائما بـ«التزام الدفاع الثابت عند الضرورة وتجنب توسيع مواقع القتال». وكانت وجهة نظر الرئيس:
1ــ أنه لا يريد لأى اعتبارات فرعية الآن أن «تلخبط له الغزل»، حسب تعبيره مرة للفريق أحمد إسماعيل.
2ــ أن ما تقوم به إسرائيل ليست له فائدة، فهى مرغمة فى النهاية (حسب فهمه من الاتصالات مع كيسنجر ومن قرارات مجلس الأمن) على العودة إلى خطوط 22 أكتوبر؛ وبالتالى، فكل ما تفعله الآن نوع من «المهوبصة» (أى حركات لا فائدة منها).
ويؤكد «الأستاذ» أن السادات «كان يترجم قرارات مجلس الأمن، ومحادثات الكيلو 101، واتصالات واشنطن طبقا لمنظوره للأمور، وربما وفق ما كان يتمناه لخط سيرها. فى حين أن إسرائيل لم تكن تترجم النصوص، حتى وإن كانت جلية، وإنما كانت تعيد صياغتها بصنع واقع جديد على الأرض.
ومن ذلك مثلا أنه حين بدا أن موضوع إطلاق سراح أسراها فى مصر مازال معطلا. أقدمت القوات الإسرائيلية فى منطقة القناة على اعتقال 5700 مواطن مصرى بينهم كثير من الفلاحين خطفوا من حقولهم للاحتفاظ بهم كرهائن يجرى استعمالهم فى الضغط من أجل إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين. واستقر الرأى تجاه هذه الاستفزازات الإسرائيلية الجديدة على عدم إبلاغ مجلس الأمن طالما أن كيسنجر نفسه بدأ يتولى الأمر، ثم إنه قادم بنفسه إلى المنطقة.
وكلف السادات كلا من الدكتور عبدالقادر حاتم، نائب رئيس الوزراء، وحافظ إسماعيل مستشاره للأمن القومى، بأن يبعثا بالتفاصيل كاملة بما فيها كشوف بأسماء المخطوفين إلى وزير الخارجية إسماعيل فهمى لكى يقوم بإبلاغها إلى الدكتور كيسنجر.
أغرب الوثائق
يعود الكاتب الكبير إلى مسألة «الضمان الكتابى من الولايات المتحدة»، فيقول «كان موعد زيارة كيسنجر للقاهرة يقترب، وكان لابد لإسماعيل فهمى أن يغادر واشنطن ليسبقه ويكون فى انتظاره عندما يجىء، وتلقى تعليمات من القاهرة تأذن له بالعودة وتخطره بآخر الترتيبات المقررة فى الزيارة، وبينها «أن دعوتك (أى إسماعيل فهمى) للضيف (أى كيسنجر) على الغداء يمكن أن تتم يوم 7 نوفمبر علما بأن الحاضرين سوف يحددهم السيد الرئيس.
وتوجه فهمى إلى مقابلة أخيرة فى واشنطن مع كيسنجر هدفه الأساسى منها الحصول على «الضمان» الذى كثر الحديث عنه، وكتب «إسماعيل فهمى» برقيتين (منشورتان فى الكتاب)، كانت الثانية منهما خاصة بالضمان المكتوب المطلوب. وكتب فيها بالنص: «بعد حوار طويل سلمنى كيسنجر الضمان المكتوب، وكان يود فى أول الأمر عدم توقيعه بالحروف الأولى ثم وقعه، وأضاف ضاحكا بأنه يرجو ألا ينشر الضمان فى «الأهرام».
ويشير الضمان إلى أنه «اتصالا بأى اتفاق يتم بين مصر وإسرائيل بخصوص تنفيذ (الفقرة الأولى من) قرار مجلس الأمن رقم 338، تضمن الولايات المتحدة بأنها ستفعل أقصى ما تقدر عليه لمنع عمليات عسكرية هجومية تقوم بها القوات الإسرائيلية فى الضفة الغربية ضد القوات المصرية أثناء وجود القوات الإسرائيلية فى الضفة الغربية».
كان الضمان المطلوب الذى جرى الإلحاح عليه مكتوبا بالآلة الكاتبة على ورقة بيضاء. وقد ذيل بالحروف الأولى من اسم كيسنجر الكامل «H.A.K» (هنرى ألريد كيسنجر)، ووقعه كيسنجر بالحرفين الأولين من اسمه المشهور «H.K» (هنرى كيسنجر).
ويظهر أن إسماعيل فهمى أبدى ملاحظة على نوع الورق الذى كتب عليه الضمان، ونوع التوقيع المختصر (الحروف الأولى التى ذيل بها) وتفهم كيسنجر وساوس وزير الخارجية المصرى. وهكذا فإنه وعده بأنه سوف يسلمه نسخة جديدة من هذا الضمان مكتوبة على الأوراق الرسمية لوزارة الخارجية الأمريكية وبتوقيع كامل منه، وليس فقط بالحروف الأولى، وذلك عندما يجىء إلى القاهرة يوم 6 نوفمبر.
ويعلق «الأستاذ هيكل» كانت تلك (سواء بالحروف الأولى أو بتوقيع كامل) وثيقة من أعجب وأغرب الوثائق، سواء فى شكلها أو لغتها أو طريقة تقديمها. وفى كل الأحوال فإنها كانت أقل كثيرا من حجم الحقائق وحجم الموقف، وحجم وقيمة وإنجاز الطرف الذى طلبها وألح عليها حتى قدمت إليه فى النهاية!
الحلقات السابقة:
قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل : روايتى عن حرب أكتوبر تدور أساسا حول السادات - (1)
قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل:مأزق السادات بعد رحيل عبدالناصر - (2)
قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: معركة السادات مع «مراكز القوى» والرهان على واشنطن للوصول للحل السلمى - (3)
قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: مصر عاشت نوعا من الانفصام بين السياسة والسلاح عام 1972 - (4)
قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: معجزة البشر على جبهتى سيناء والجولان في أكتوبر 1973 - (5)
قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» هيكل: «السياسة» تكشف خطوط «السلاح» بعد 20 ساعة قتال - (6)
قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة».. لهيكل: تطوير الهجوم المتأخر يتسبب فى حدوث ثغرة الدفرسوار - (7)
قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: غليان فى القيادة المصرية بشأن تصفية الثغرة - (8)
قراءة في كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: السادات يقبل قرار وقف إطلاق النار دون إبلاغ سوريا - (9)
قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: العالم على حافة مواجهة بين واشنطن وموسكو لعدم التزام إسرائيل بوقف القتال (10)
قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل:كشف حساب عن الأداء المصرى فى «20 يوم قتال» (11)