طارق البشري قاضياً (3).. قصة أول حكم قضائي ببطلان إحالة المدنيين إلى القضاء العسكري
آخر تحديث: الأربعاء 3 مارس 2021 - 2:48 ص بتوقيت القاهرة
محمد نابليون:
في الحلقة الثالثة والأخيرة من حلقات «طارق البشري قاضياً»، والتي خصصتها «الشروق» لتسليط الضوء على أبرز إسهامات المفكر الراحل القانونية والمبادئ القضائية التي أرساها إبان عمله بمجلس الدولة، والتي يأتي على رأسها حكمه الأشهر بعدم جواز إحالة المدنيين إلى القضاء العسكري، والذي ستركز هذه الحلقة عليه لإبراز الظروف المحيطة بصدوره، وأهم ما تناوله الحكم، بالإضافة إلى التوابع التي ترتبت عليه.
الحلقة الأولى الحلقة الثانية
ويصف المستشار الدكتور محمد هاشم، نائب رئيس مجلس الدولة في كتابه «الاجتهادات القانونية للمستشار طارق البشري في القضاء والإفتاء» هذا الحكم بالاجتهاد الصعب، موضحاً أنه رغم كونه الاتجاه القانوني الصحيح إلا أن الطريق إليه لم يك معبداً أو سهلاً، وذلك بالنظر إلى الظروف المحيطة بصدوره والأحكام القضائية السابقة عليه والمستقرة على جواز إحالة المدنيين للمحاكمات العسكرية، وأخيراً النتائج التي ترتبت عليه، والتي سنوضح كل عنصر منها على نحو منفصل فيما هو آت.
أولاً .. ظروف إصدار الحكم والمبادئ القضائية السابقة عليه
صدر محكمة القضاء الإداري، برئاسة المستشار طارق البشري، وعضوية المستشارين محمد الجوادي وبخيت إسماعيل، نائبي رئيس مجلس الدولة، بعدم جواز إحالة المدنيين للمحاكمات العسكرية، في ظل سريان الفقرة الثانية من المادة السادسة من قانون الأحكام العسكرية والتي كانت تخول رئيس الجمهورية متى أعلنت حالة الطوارئ، أن يحيل إلى القضاء العسكري أي من الجرائم التي يعاقب عليها قانون العقوبات أو أي قانون آخر، تلك الفقرة التي تم إلغائها في أعقاب ثورة 25 يناير.
وأبطلت المحكمة بموجب ذلك الحكم قرار رئيس الجمهورية رقم 375 لسنة 1992 والذي تضمن إحالة الجرائم موضوع القضية رقم 391 لسنة 1992 حصر أمن دولة عليا وما يرتبط بها من جرائم تسفر التحقيقات في أية مرحلة عن نسبتها إلى المتهمين فيها إلى القضاء العسكري.
وبحسب ما أشار إليه المستشار الدكتور محمد هاشم في كتابه، فإن ذلك الحكم صدر في ظروف بالغة الصعوبة حيث لم يكن يسبقه أي جهد قضائية يمكن البناء عليه وييسر السبيل ويجعل إصداره أمراً ميسوراً، معدداً من الأحكام القضائية السابقة على صدور ذلك الحكم ومنها على سبيل المثال حكم المحكمة العليا – السابقة على المحكمة الدستورية العليا- والصادر في 3 أبريل 1976 برفض الطعن على دستورية الفقرة الثانية من المادة السادسة من قانون الأحكام العسكرية المشار إليها.
وبعد صدور هذا الحكم بشهور قليلة وبالتحديد في 6 نوفمبر 1976 أصدرت ذات المحكمة حكماً آخر برفض دعوى عدم دستورية قرار رئيس الجمهورية رقم 1144 لسنة 1973بشأن إحالة بعض الجرائم إلى القضاء العسكري، وذلك لاستناده للمادة السادسة من قانون الأحكام العسكرية التي تخول رئيس الجمهورية سلطة إصداره.
وعلى صعيد أحكام مجلس الدولة، فقد سبق لمحكمة القضاء الإداري إصدار حكم في 17 مارس 1983 برفض دعوى إلغاء قرار رئيس الجمهورية ر قم 318 لسنة 1977 بإحالة قضية خطف وقتل المرحوم الدكتور محمد حسين الذهبي وما ارتبط بها من جرائم أعضاء جماعة التكفير والهجرة وما ارتكبه أفرادها من جرائم أخرى إلى القضاء العسكري، وأيدت المحكمة الإدارية العليا ذلك الحكم ورفضت الطعن عليه، وذلك استناداً للأحكام الصادرة من المحكمة العليا برفض دعاوى عدم دستورية قانوني الطوارئ والأحكام العسكرية.
وكذلك الحال بالنسبة لقضية سليمان خاطر، الذي أقام دعوى أمام محكمة القضاء الإداري طالب فيها بإلغاء قرار رئيس الجمهورية رقم 380 لسنة 1985 بإحالة الجرائم المنسوبة إليه بقتل وإصابة 9 إسرائيليين، إلى القضاء العسكري وما يرتبط بها من جرائم.
ورفضت المحكمة هذه الدعوى استناداً أيضاً للمادة السادسة من قانون الأحكام العسكرية السابق ذكرها، وأكدت المحكمة أن ذلك النص القانوني يتسع ليشمل أية جريمة يرى رئيس الجمهورية أحالتها إلى القضاء العسكري، مؤكدة أن الأوراق خلت مما يفيد إساءة رئيس الجمهورية استعمال السلطة المخولة له في هذا الشأن، واستندت المحكمة في حكمها أيضاً إلى الحكمين الصادرين من المحكمة العليا المشار إليهما.
وأقام سليمان خاطر طعناً على هذا الحكم أمام المحكمة الإدارية العليا، والتي انتهت إلى رفض الطعن استناداً إلى انتفاء ركن الجدية اللازم لوقف تنفيذ قرار الإحالة إلى القضاء العسكري، على اعتبار أن خاطر أثناء اتهامه بتلك التهم كان يؤدي الخدمة العسكرية الإلزامية في هيئة الشرطة بدرجة رقيب، موضحة أن خضوع جنود الدرجة الثانية بالشرطة في خدمتهم ومعاملتهم لجميع الأحكام الخاصة بالجنود وضباط الصف للقوات المسلحة، وبالتالي فإنه يخضع في كل ما يتعلق بخدمته في هيئة الشرطة لأحكام القوانين والقرارات السارية على نظم الخدمة بالقوات المسلحة، ولكنه كان طبقاً لقانون الشرطة يخضع للمحاكمة العسكرية التي تشكل بهيئة الشرطة وتطبق قانون الأحكام العسكرية.
وبعد رفض الطعن أصدرت المحكمة العسكرية العليا في السويس برئاسة اللواء مصطفى دويدار وعضوية اللواء محمود خورشيد والعميد محمود عبد العال، والمقدم يحيى قاسم ممثلاً للإدعاء، حكماً بالسجن المؤبد على سليمان خاطر مع الأشغال الشاقة.
ثانياً .. صدور الحكم وعدوله عن مبدأ جواز محاكمة المدنيين عسكرياً
وتوضيحاً لمدى صعوبة إصدار حكم عدم جواز محاكمة المدنيين عسكرياً، في ظل ما سبق ذكره من ظروف، يقول المستشار الدكتور محمد هاشم، إن محكمة القضاء الإداري برئاسة المستشار طارق البشري كانت تواجه لدى نظرها للدعوى استقرار على مبدأ جواز إحالة المدنيين للقضاء العسكري بمبادئ قضائية أصدرتها محاكم القضاء الإداري والمحكمة الإدارية العليا والمحكمة العليا، موضحاً أن هذا الاستقرار يفيد بأنه لا جديد في المسألة ولا حاجة لإعادة بحث الموضوع من جديد.
وأضاف هاشم أنه كان يمكن لأية محكمة وهي تواجه مثل هذا الاستقرار أن تعفي نفسها من إعادة بحث الموضوع مجدداً ووضع العبارات التي تبرئ ساحتها من المساهمة فيه، فما عليها إلا أن تضع العبارة المعتادة ( ومن حيث المستقر عليه في قضاء هذه المحكمة والمحكمة الإدارية العليا) وتضيف إليها عبارة (ومؤيداً بما قضت به المحكمة العليا)، مؤكداً أن المحكمة برئاسة المستشار طارق البشري رفضت أن تعفي نفسها من بحث الموضوع من جديد، وأصرت أن تصدر فيه حكماً مخالفاً لما قيل إنه من المستقر عليه، لأنها رأت أن ذلك لن يكون أداء للأمانة في الحكم بالحق والعدل.
وعلى ذلك، بدأت وقائع النزاع أمام المحكمة بطعن على قرار رئيس الجمهورية رقن 375 لسنة 1992 الصادر في 7 أكتوبر 1992 بإحالة الجرائم موضوع القضيتين رقمي 391 و 396 لسنة 1992 حصر أمن دولة عليا وما يرتبط بهما من جرائم تسفر التحقيقات في أية مرحلة عن نسبتها إلى الممتهمين فيها إلى القضاء العسكري.
وبجلسة 8 ديسمبر 1992 قضت المحكمة بوقف تنفيذ ذلك القرار وما يترتب عليه من آثار، وقالت المحكمة في حيثيات حكمها : «إن هذه المحكمة لا تملك إلا أن تستهدي بفهمها للفقرة الثانية من المادة السادسة من قانون الأحكام العسكرية، والتي تخول لرئيس الجمهورية سلطة إحالة المدنيين للمحاكمة العسكرية، في ضوء مناهج التفسير التي تعين في تبين دلالة اللفظ، وفي ضوء المعاني المصطلح عليها سواء في الفقه أو بالاستنباط من ألفاظ النصوص أو الاستقراء من الاستخدامات التشريعية وفي ضوء تبني معايير الضبط الموضوعي الذي تقوم عليه ولاية القضاء، وفي ضوء ما تقوم عليه فكرة القاضي الطبيعي من أسس وأركان .»
وتابعت المحكمة : «والأمر هنا ليس أمر قضية بعينها ولا دعوى بخصوصها، بل هو أمر يتعلق بأسس التنظيم القضائي ومنهج الضبط للولاية القضائية التي تقوم سنداً لسيادة القانون، وبقدر ما تتأكد هذه المعاني وتقوى على استيعاب النوازل والطوارئ بقدر ما تتوطد أركان الدولة ويعظم الاستقرار في المجتمع».
وأسست المحكمة حكمها في ضوء المبادئ الدستورية المرتبطة بأحقية الإنسان في أن يحاكم أمام قاضيه الطبيعي، والولاية المنفردة للمشرع (مجلس الشعب) في تحديد الهيئات القضائية وتحديد اختصاصاتها وتشكيلها، ومبدأ سيادة القانون كمبدأ مستقل وولاية القضاء كأحد أركانه، ومناهج تفسير الألفاظ والنصوص.
وأكدت المحكمة في نهاية حكمها إن الثابت من الأوراق فإن القرار المطعون فيه إذ انطوى على إحالة قضيتين تحدثا بذواتهما وأشخاصهما إلى قضاء غير مختص فإنه يكون بحسب الظاهر من الأوراق صدر مخالفاً للقانون راجحاً إلغاؤه عند نظر الدعوى موضوعاً وهو ما يتوفر معه ركن الجدية اللازم للقضاء بوقف تنفيذه، ولا شك في توافر ركن الاستعجال بدوره لتعلق الأمر بتحديد جهة القضاء التي تختص وفقاً للدستور والقانون بمحاكمة مقيم الدعوى واتصاله بحريته وضماناته الدستورية المقررة.
ثالثاَ .. آثار الحكم وطريقة تعامل الحكومة معه
لم ترض الحكومة في ذلك التوقيت عن حكم المستشار البشري، وسارع وزير العدل وقتها المستشار فاروق سيف النصر إلى التقدم بطلب تفسير للمحكمة الدستورية العليا، والذي صدر الحكم فيه برئاسة المستشار عوض المر، وعضوية المستشارين محمد إبراهيم أبو العينن وفاروق غنيم وعبد الرحمن نصير وسامي يوسف ود. عبد المجيد فياض وعدلي منصور، حيث انتهت المحكمة فيه إلى
أن عبارة «أياً من الجرائم التي يعاقب عليها قانون العقوبات أو أي قانون آخر» الواردة في الفقرة الثانية من المادة السادسة من قانون الأحكام العسكرية يقصد بها الجرائم المحددة بنوعها تحديداً مجرداً وكذلك الجرائم المعينة بذواتها بعد ارتكابها فعلاً، وذلك على نحو خالف حكم محكمة القضاء الإداري الصادر برئاسة المستشار طارق البشري، الذي كان يعتبر أن هذه العبارة لا تتسع لتشمل الجريمة محل الدعوى الصادر فيها الحكم.
وبالإضافة إلى ذلك صدر حكم المحكمة الإدارية العليا برئاسة المستشار محمد حامد الجمل، رئيس مجلس الدولة الأسبق، بإلغاء حكم البشري بجلسة 23 مايو 1993، والذي استندت فيه المحكمة إلى حكم التفسير الصادر من المحكمة الدستورية العليا، وتبنت فيه المحكمة تفسير المحكمة الدستورية لعبارة «أياً من الجرائم » مؤكدة أن هذا التفسير يقيدها باعتبارها جزء من السلطة القضائية إحدى سلطات الدولة.
وأكدت المحكمة الإدارية العليا أن سلطة الإحالة إلى القضاء العسكري المخولة لرئيس الجمهورية بمقتضى الفقرة الثانية من المادة السادسة من قانون الأحكام العسكرية، تنطبق على كل ما تحتويه عبارة «أية جريمة» - لغة وقانوناً- وهذه العبارة تتسع لتشمل كل جريمة يتناولها قرار الإحالة، مؤكدة أن القول بغير ذلك ينطوي على تخصيص للعام بغير دليل.
وشددت المحكمة على أن الاختصاص المخول لرئيس الجمهورية في شأن الإحالة للقضاء العسكري ليس تفويضاً من المشرع وإنما هو اختصاص أصيل بمقتضى الدستور والقانون.