«ثقافة الإتقان» واجب الوقت في الشرق والغرب
آخر تحديث: الإثنين 4 مارس 2019 - 1:26 م بتوقيت القاهرة
القاهرة - أ ش أ:
سواء في الشرق أو الغرب تتوالى طروحات ورؤى لمثقفين ومبدعين حول أهمية "ثقافة الإتقان" حتى يحق القول إنها تشكل "واجب الوقت "من أجل أن تمضي الإنسانية قدما نحو الغد الأفضل.
وفي سياق تناول أهمية ثقافة الإتقان ومواجهة أي عناصر مهملة أو منفلتة، يتفق المعلقون في الصحف ووسائل الإعلام المصرية على أن تلك العناصر المهملة والمنفلتة لا تحظى بأي تعاطف من جموع المصريين، وها هي المؤرخة البريطانية هيلي روبينهولد التي عرفت بدراساتها المعمقة في التاريخ الاجتماعي تتساءل بنظرة عميقة للتاريخ الإنساني: "لماذا لا نفعل الأفضل؟!"، فيما تسعى هذه المؤرخة البالغة من العمر 48 عاما لاستخلاص الدروس المفيدة من أخطاء وخطايا يرتكبها البعض وتسبب حالة من الألم العام في المجتمع.
وهيلي روبينهولد التي ولدت عام 1971 في لوس أنجلوس بالولايات المتحدة وتعيش في بريطانيا منذ نحو عقدين لتتخصص في تاريخ المملكة المتحدة شغوفة بالتفاصيل وتؤمن بصحة المقولة التي يرددها البعض: "الشيطان يكمن في التفاصيل" وهي تركز في دراساتها التاريخية على الحياة الإنسانية للبشر العاديين.
وفي خضم دراساتها التاريخية للتوصل لجذور أخطاء وخطايا وجرائم هزت المجتمع البريطاني في تاريخه الحديث تستعين هيلي روبينهولد التي أصدرت كتابا جديدا بعنوان "الخمسة" بكل المصادر المتاحة بما في ذلك السجلات الطبية ومحاضر مراكز الشرطة وقصاصات الصحف فيما يطرح كتابها الجديد رؤية جديدة بشأن جرائم ارتكبها مجرم يدعى "جاك السفاح" في القرن الـ19 وروعت البريطانيين.
ولاريب أن الإهمال والافتقار لثقافة الإتقان سبب أصيل من أسباب الأخطاء والخطايا التي تثير حالة من الألم العام في أي مجتمع انساني وتشد اهتمام مؤرخة مثل هيلي روبينهولد، فيما رأى الكاتب الكبير مكرم محمد أحمد أن الإهمال يفوق في خطورته الفساد، فقد أكد أهمية أن "تنتظم مصر كلها في حرب مستمرة على الإهمال إلى أن تتمكن من قطع دابره".
ولا جدال أن "الألم" قضية إنسانية تخص كل الشعوب والثقافات وكل من هو جدير بالانتماء للبشر أو للنوع الإنساني كما أن "ثقافة الإتقان" تشكل نوعا من "العلاج الاستباقي لأخطاء وإهمال جسيم للبعض في كل المجتمعات ويسبب حالة من الألم العام".
وتلك القضايا حاضرة دوما في هموم المثقفين والمبدعين المصريين ورغم مرور أكثر من 12 عاما على رحيل النوبلي المصري نجيب محفوظ مازالت دعوته تنادينا من أجل "الإتقان"، وهو الذي استنكر من قبل مظاهر للإهمال الجسيم قد تتسبب في حوادث تدمي الضمير العام.
والمتأمل لكتابات الأديب النوبلي المصري نجيب محفوظ يخلص إلى أن مفاهيم "ثقافة الإتقان" كانت حاضرة بقوة في عقله وقلبه من أجل غد أفضل للمصريين وهو ماقد يتبدى بوضوح في مقالاته الصحفية المنشورة ناهيك عن إبداعاته الروائية.
وفي معرض تأكيده على أهمية الإتقان، يقول نجيب محفوظ إن الحاجة ماسة إلى "ثورة أخلاقية شاملة تنعش الأرواح"، مؤكدا أهمية "المساواة والعدل والنزاهة" ضمن هذه "الثورة الأخلاقية التي طال انتظارنا لها".
رأى نجيب محفوظ أن الالتزام بالدقة والأمانة والمصلحة العامة هو معقد الرجاء لإبداع الحضارة، لافتا إلى أهمية القدوة لتحقيق الانضباط والاستقامة والإنجاز وداعيا لمطاردة الانحرافات باعتبارها "جريمة شنعاء في حق الجماهير التي تشقى في سبيل لقمة العيش".
وفيما حذر محفوظ من "الانفعالية" التي سرعان ما تخمد في مواجهة السلبيات، فإنه يشدد أيضا على خطورة "الإهمال أو الخمول والتواكل وما يعرف بالتسيب"، موضحا أن صاحب هذا السلوك اللاأخلاقي "لاحدود لتذمره وشكاياته والحقيقة أن النقص الأول والجوهري راسخ في أعماقه"، كما أن "الجشع والإهمال لا يعرفان حدا يقفان عنده".
ويمضي هذا الأب الثقافي المصري العظيم ليقول إن "الانضباط الحقيقي نبض في السلوك والقلوب قبل أن يكون مادة في قانون بل نحن لا نسن له القوانين إلا كإجراء عاجل لا مفر منه" في المعركة ضد التسيب، أما الهدف الأخير منه فهو أن يصير "عادة سلوكية وقيمة ينبض بها الضمير الحي".
وأضاف نجيب محفوظ: "أننا بحاجة للانضباط داخل النفس والضمير لنعتنق الإخلاص في العمل والاعتدال في اللهو والبساطة حيال مطالب الحياة"، مشددا من جديد على أهمية الارتقاء لمستوى المسؤولية بوحي من الضمير.
وذهب في معرض تأكيده على أهمية الإتقان ومواجهة الإهمال وكل صور الانحرافات للمطالبة بما وصفه "بالعنف العادل" في مواجهة المنحرفين من كل الأنواع دفاعا عن الأرواح والأموال والتنمية وسائر القيم "بل دفاعا عن مصير الوطن والمواطنين".
وهكذا تشهد مقالات ورؤى نجيب محفوظ التي كان ينشرها بانتظام في جريدة الأهرام على إدراك عميق لأهمية الثورة الأخلاقية والعمل بوحي من الضمير الحي والشعور بالواجب والإرادة الخيرة والتصميم النبيل والعزيمة التي لا تلين.
كما يؤكد في الوقت ذاته أن "في صميم طبيعتنا ما يؤهلنا لمواجهة العصر بجميع تحدياته"، مستشهدا بما تحقق من نصر في حرب السادس من أكتوبر المجيدة، ومضيفا: "نحن شعب لا تنقصه في صميمه الصلابة والقوة ولاتعز عليه التضحية في سبيل المجموع والقيم".
ومسألة التربية تحظى بأهمية واضحة في منظور نجيب محفوظ الذي يقول: "لن يتهيأ لنا الكمال في إيقاظ الضمائر وبناء الشخص المطلوب الا بالتربية الطويلة"، معتبرا أن "التنمية الشاملة ما هي إلا تسمية جديدة لما عرف في التاريخ بالنهضة الشاملة وخاصة إذا ركزت على الأسس والأصول".
والاستقلال الحقيقي في منظور نجيب محفوظ يعني "أن نعتمد على أنفسنا اعتمادا يغنينا عن مساعدة الغير أو الوقوع تحت رحمته وأن نلتزم بذلك مهما كلفنا من جهد أو تضحية"، وأن "نحافظ على طهارة العمل واستقامته ونطارد المنحرفين بلا تهاون"، مع مراعاة العدل والتضامن حتى يتحمل كل على قدر طاقته.
لعل اللحظة المصرية الراهنة بكل تحدياتها تستدعي قراءة جديدة لمفاهيم ثقافة الإتقان ومعانيها وإطلاق الخيال حول سبل تجسيدها ضمن تصورات المستقبل الذي تمناه عاشق كبير لمصر مثل نجيب محفوظ الذي كان يتألم لأي مظاهر للانفلات الأخلاقي والسلوكي والإهمال الجسيم.
و"الألم" قضية إنسانية تخص كل الشعوب والثقافات وكل من هو جدير بالانتماء للبشر أو للنوع الإنساني وبالقدر ذاته فان الألم قد يكون طريقا لتطوير الذات الانسانية والأمم والشعوب عبر تبني ثقافة الإتقان.
والألم في الثقافة الغربية مثلا قد يكون طريقا لتطوير الذات كما يوضح مثلا كتاب صدر بالإنجليزية بعنوان "قصة الألم" لجوانا بورك وهو بحق يشكل "دراسة جريئة عن الاستجابة الانسانية للألم" لكاتبة صاحبة اهتمامات ثقافية عميقة بقضايا ومشاعر مثل الحزن والقتل والخوف فيما تبدت تلك الاهتمامات منذ بدايات مسيرتها مع الكتابة وكتابها المبكر: "ما معنى أن تكون إنسانا"؟! .
وهذا الكتاب لجوانا بورك يحوي شهادات وآراء لشعراء ورجال دين وأطباء فيما تجمع المؤلفة ما بين الخبرة الأكاديمية وجمال الأسلوب والطرح غير التقليدي، فإذا بها قد صنعت حالة من الكتابة المبهجة رغم أن الموضوع بطبيعته محزن لأنه يتناول "الألم".
وللألم تجلياته العبقرية في الإبداع كما هو الحال على سبيل المثال في رواية "بالأبيض على الأسود" لروبين جونزاليز والتي تحكي تجربته الإنسانية الأليمة كشخص وصف بأنه "كمعوق" غير أنه حول ذاته إلى موضوع كبير عن علاقة المجتمعات بأبنائها من المعوقين وذوي الاحتياجات الخاصة وكيف تكون عنوانا على التحضر الإنساني.
فهذا المؤلف الإسباني سعى لتحويل سيرته الذاتية لرواية بالمعنى الفني وكان همه الأساسي نفي الذات باديء ذي بدء حتى لا يقع في شبهة استدرار عطف القاريء عليه فيما نجح بالفعل في طرح رؤية فنية تقدم عالما شديد الثراء في الدلالة على الأعماق الحقيقية الصادقة والمباشرة للانسانية حال عجزها عن ممارسة الحياة بصورة طبيعية.
والبشر الذين يؤمنون بعدالة قضاياهم وقضايا الوطن هم كما تؤكد جوانا بورك في كتابها الجديد قد لا يشعرون بأي ألم في قلب المعركة مهما كانت قسوة جراحهم لأن مشاعرهم وأحاسيسهم كلها مشدودة لعدالة ونبل القضية التي يحاربون في سبيلها ولن يكون هناك ما هو أنبل أو أكثر عدالة من قضية النهوض بالوطن، فضلا عن مواجهة الإهمال عبر تبني ثقافة الإتقان.
وتشكل تبدو ثقافة الاتقان مع قراءة واعية للنماذج الناجحة في هذا النوع من الثقافة في عالم بات قرية صغيرة بفضل ثورة الاتصالات والمعلومات واجب الوقت في مواجهة أسئلة مريرة تتردد من حين لحين وفي سياقات محزنة جراء حوادث في مجتمعات إنسانية شتى لكنها تعكس ككل اهمالا جسيما من جانب البعض مع غياب محزن لثقافة الإتقان.
وبالقدر ذاته، فمن الأهمية بمكان تجنب "جلد الذات" فبلد في حجم الصين سعى ويسعى لتعلم الدروس المستفادة من تجربة سنغافورة الناجحة في النمو التي أسسها لي كوان يو وهي تجربة ترتكز على ثقافة الإتقان ونهج العمل المنضبط والنظام القائم على الجدارة، وهذا ما أدركه مبكرا الزعيم الصيني دينج شياو بينج وهو يطلق سياسات الانفتاح ويقارن بين التجارب التنموية الناجحة والأنسب لظروف بلاده.
والحق أن التجربة السنغافورية وجذورها التاريخية تثير حتى اهتمام الثقافة الغربية وها هو كتاب صدر بالإنجليزية بعنوان: "رافلز والفرصة الذهبية" تتناول فيه المؤلفة فيكتوريا جليندينج تاريخ هذا البلد الأسيوى منذ بدايات القرن الـ19، وهذا الكتاب مفيد في التعرف على منابع النجاح الذي حققته سنغافورا كنموذج مضيىء لثقافة الإتقان.
والأمر عند مثقف ومبدع مصري كبير مثل القاص الدكتور محمد المخزنجي يتمثل في أن مصر عليها النجاح في "امتحان التنمية أو الصعود أو النهضة"، مؤكدا أهمية الالتفات في أي بناء وأي تجديد "للثقافة والإبداع والخيال"، فيما رأى أن مشاكل الواقع تتطلب خيالا طليقا وخصبا ومبادرات ابتكارية وحلولا غير مسبوقة".
وثمة اهتمام واضح للمثقفين بثقافة الاتقان ضمن اهتمام عام بمسائل التنمية والقضايا المتصلة بثقافة النمو والتقدم وهناك دراسات لافتة تتفق على أن "العمل المرتكز على التفكير العلمي مفتاح كل شييء"، مع تركيز على محاولة صياغة قوانين عامة وشاملة للنمو والابتكار والاستدامة.
وفي هذا السياق، اهتمت الدوائر الثقافية في الغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص بدراسة لجيوفري ويست عنوانها "مقياس: القوانين الجامعة للنمو والابتكار والاستدامة وإيقاع الحياة في الكائنات الحية والمدن والاقتصاديات والشركات".
وعالم الفيزياء جيوفري ويست قضى أغلب سنين حياته كباحث في الكيان العلمي الأمريكي الشهير في التقنية وتطبيقات العلم "مختبر لوس الاموس الوطني" تحول بعد تقاعده عن العمل بهذا المختبر للتركيز على مايعرف بتطبيقات التكنولوجيا الحرجة للعلوم المتشابكة حيث يقود معهد "سانتافي" الذي يضم فرقا مشتركة لباحثين في الفيزياء وعلوم الحاسوب والرياضيات والبيولوجي والاقتصاد والسياسة من أجل التوصل "لفهم اعمق لتعقيدات وتشابكات البيئة الطبيعية والمجتمع الإنساني باستخدام مناهج التفكير العلمي" وبما يعيد للأذهان قضية "وحدة المعرفة وتنوع تطبيقاتها".
غير أن جوهر هذه الدراسة الجديدة والمهمة يؤكد على أهمية ثقافة العمل بأعلى درجات الإتقان لمن يريد أن يجد له المكان المناسب في عالم لم يعد بوسع أحد توقع ما ستصل إليه ثورة المعلومات والطفرة الهائلة في الابتكارات وتطبيقات العلم او التكنولوجيا على قاعدة الابداع الانساني.
ولعل مصر تقدم الكثير من النماذج المضيئة لهذا النمط من الثقافة كما يتجلى مثلا في "مجمع بنبان للطاقة الشمسية" بأسوان والذي يعد أكبر مجمع محطات للطاقة الشمسية في إفريقيا والشرق الأوسط، فيما أفاد المركز الاعلامي لمجلس الوزراء بأن استثمارات هذا المجمع المصري العملاق والمقرر الانتهاء منه في منتصف هذا العام تبلغ في مجموعها ملياري دولار.
وحسب بيانات منشورة، فإن متوسط ما تم إنفاقه على البنية الأساسية في مصر بين عامي 2014 و2018 يتجاوز الـ800 مليار جنيه، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ الدولة المصرية بقدر ما يعبر عن عزم المصريين لإعادة بناء وطنهم على أحدث معايير العصر وبروح ثقافة العمل والاتقان التي ترفض أي إهمال وتنبذ العناصر المهملة والمنفلتة.
وهكذا يرى الكاتب الصحفي الكبير في جريدة الأهرام مرسي عطاالله أن هناك حاجة لمراجعة بنود ثقافة العمل بما يسمح بفهم جديد لدور المؤسسات والمرافق الحيوية للارتقاء بها إلى مستوى المهام الكبرى المعلقة عليها.
وثقافة العمل والإتقان تنطوي على العديد من القيم الثقافية الايجابية مثل التفكير الابتكاري وإعلاء قيمة الأمل وتحدي اليأس والاحباط وتأكيد الثقة بالذات المنفتحة على العالم وهذا "التفكير" حاضر في أذهان مثقفين مصريين منذ سنوات بعيدة، حتى أنه منذ عام 1950 قال مثقف وصناعي مصري كبير شغل منصب رئيس اتحاد الصناعات حينئذ وهو صبحي وحيدة في كتابه "في أصول المسألة المصرية" إن التعليم لن يغني عن المتعلمين شيئا ماداموا لا يجدون في الحياة اليومية ما يتصل به من ظواهر يستطيعون بمعالجتها "أن يطبقوا علمهم وينموا ملكاتهم ويرتفعوا إلى الابتكار".
وإذا كان الشعار العقلاني في المرحلة الراهنة بمجتمعات متعددة: "دعم النمو" بكل السبل فإن مصر تمضي قدما في تجسيد هذا الشعار في أرض الواقع من اجل مستقبل أفضل لأجيال شابة وصاعدة فيما لن يسمح المصريون لأي عناصر مهملة أو منفلتة ان تبدد انجازاتهم الهائلة وتهدد أحلامهم النبيلة في دعم النمو وتحقيق التنمية الشاملة بأعلى المعدلات.. فسلام على كل من يعمل باتقان اجل الوطن وسلام لكل وجه كادح تحت علم الوطن.