روسيا وأوكرانيا.. حرب عالمية غير معلنة (1ــ3): ألف عام من الحروب على درب الإمبراطورية الروسية

آخر تحديث: الجمعة 8 مارس 2024 - 2:07 م بتوقيت القاهرة

عرض وتحليل ــ طلعت إسماعيل

تفسير جغرافى للحرب بين روسيا والغرب على المسرح الأوكرانى
من روسيا كييف إلى روسيا المسكوفية صراع طويلة لتثبيت الهوية القومية
إيفان الرهيب «يبتلع الأعداء» فى أكبر عملية توسع جغرافى بغزو الأقاليم المجاورة لروسيا
بعد 70 سنة من ميلاده الثورى الفوَّار الاتحاد السوفيتى ينهار فيما يشبه الزلزال
حبات العقد الشيوعى تتفكك.. و«الناتو» يحتل مواقع حلف وارسو التقليدية
يلتسين يسلم بهيمنة واشنطن على العالم.. وموسكو تتجرع آلام المثل الشهير: «إذا لم تستطع أن تقهر أعداءك فانضم إليهم!».
عام 2000 بوتين يعتلى السلطة ليبدأ فصلا جديدا فى حياة الشعب الروسى

يستمد هذا الكتاب «روسيا وأوكرانيا.. حرب عالمية غير معلنة» أهميته ليس لكونه يأتى فى الذكرى الثانية لاندلاع حرب بين بلدين تبادلا الأدوار فى النشأة والتكوين للأمة الروسية قبل ألف عام، ولا لأنه يروى قصة الصراع الموغل فى القدم بين قوى البر والبحر فى فضاء أورسى تأرجحت هويته بين قوى الغابات والسهوب، بل لكون مؤلفه الدكتور عاطف معتمد عالما جغرافيا ومثقفا موسوعيا خبر ما يكتب عنه، وهو الحاصل على الدكتوراه من جامعة سان بطرسبرج الروسية 2001، قبل أن يتبوأ منصب المستشار الثقافى ورئيس البعثة التعليمية للسفارة المصرية فى موسكو (2014 ــ 2016) ليحط الرحال أخيرا أستاذا فى كلية الآداب جامعة القاهرة.
والكتاب الصادر حديثا عن دار الشروق، يقدم عبر أحد عشر فصلا، وخاتمة «تفسيرا جغرافيا» للحرب الدائرة بين روسيا والغرب على المسرح الأوكرانى، مستعينا بحشد من المصادر باللغتين الروسية والإنجليزية.

ــــــــــــــــ

مطلع شهر مارس 2017، أى قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية بنحو 5 سنوات، شهد مقر حلف شمال الأطلسى «الناتو» فى العاصمة البلجيكية، بروكسل، عددا من الجلسات التى ضمت أكاديميين ودبلوماسيين سابقين وصحفيين مصريين (كنت واحدا منهم)، وعددا من مسئولى «الناتو»، حيث جرى حوار معمق بشأن الرؤية الاستراتيجية الجديدة للحلف إزاء التعامل مع الأزمات التى طرأت على عدد من المناطق، بينها شرق أوروبا وجنوب المتوسط والشرق الأوسط.
اللقاء ركز يومها، كما كتب فى حينه، على عدد من القضايا الرئيسية وتلك الفرعية، لكن المخاوف من التهديدات الروسية للحدود الشرقية لدول الحلف كانت فى مقدمتها، خاصة بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم فى مارس 2014.
فى ذلك التوقيت استغربت أن يكون جل تركيز مسئولى الناتو المشاركين فى الحوار على المخاوف الغربية من روسيا باعتبارها التهديد الأكبر للحلف، على الرغم من أن قضايا الشرق الأوسط والصراع العربى الإسرائيلى كانت الأكثر إلحاحا على الوفد المصرى المشارك. اليوم بات فهم ما جرى فى تلك القاعة الفسيحة بمقر الناتو أكثر وضوحا فى ذهنى، غير أن الدكتور عاطف معتمد، يقدم فى كتابه «روسيا وأوكرانيا.. حرب عالمية غير معلنة» رؤية أكثر اتساعا، وهدفه، كما يقول فى تمهيده «إتاحة المعلومات والآراء والتحليلات والكشف عن بعض وجهات النظر المتباينة؛ من أجل «تفسير جغرافى» للحرب بين روسيا والغرب على المسرح الأوكرانى، وبتقديم مساهمة معرفية تساعد فى إضاءة المشهد على الأسس الجغرافية والسياسية.

روسيا أم المفاجآت
فى تمهيده للكتاب يعرض المؤلف لنشأة روسيا أو«أم المفاجآت»، التى بنت على مدى قرون، إمبراطورية قوية عرفت باسم الإمبراطورية القيصرية، عمادها نظام ملكى وطبقة نبلاء وجموع فقيرة معدمة من الفلاحين تحت وطأة الإقطاع. ولما جاء القرن العشرون تلقت هذه الإمبراطورية فى الحرب العالمية الأولى (1914 ــ 1917) هزيمة ترنحت على إثرها ثم انهارت، وعلى أنقاضها نهض كائن عملاق حمل اسم الاتحاد السوفيتى.
فى عام 1991، وبعد 70 سنة من ميلاده الثورى الفوَّار، انهار الاتحاد السوفيتى فيما يشبه الزلزال، وعاشت روسيا عشرية بالغة القسوة من التضارب السياسى والاقتصادى وأشباح التفكك الإقليمى والحرب الأهلية ومخاطر النظام الديمقراطى فى دولة لم تعرف الديمقراطية منذ قرن من الزمن.
وفى عام 2000 وصل للسلطة فلاديمير بوتين، ضابط شاب قليل الشهرة من جهاز المخابرات، كان قد ترعرع على مشاهد انهيار حائط برلين وانحسار الشيوعية وتراجع الاتحاد السوفيتى ليبدأ فصل جديد فى حياة الشعب الروسى.
وتحت عنوان «ألف عام من الصراع والحرب» يدخلنا الكتاب فى «رحلة شيقة» تلخص تاريخ روسيا وأوكرانيا طيلة ألف عام مقسمة إلى محطات أشارت فى بعض جوانبها إلى أن العالم لم يسمع بالروس كشعب أو نظام سياسى قبل نهاية القرن العاشر. ففى عام 988، وصل سفير الروس إلى القسطنطينية عاصمة بيزنطة طالبا التحالف، وكانت تلك بداية انتباه الحضارات الأوروبية إلى القبائل السلاڤية التى تشرف على طرق التجارة بين البحر الأسود وبحر البلطيق.
وحتى نهاية القرن العاشر، كان المسرح الجغرافى الذى نشأت فيه روسيا فى شمال شرق أوراسيا مجالا للتبديل المستمر بين الممالك الرعوية فى أراضى السهوب الممتدة بين العمق الآسيوى والهامش الأوروبى. فقد تشكل «السلاﭪ»، الذين ينتمى إليهم الروس كجماعة عرقية، فى كنف الوحدات الأقوى من الدول والممالك الآسيوية، بداية من تأثير «سكيثيا»، و«السارمات» مرورا بكل من «القوط» و«الهون».
كانت سكيثيا ومن بعدها السارمات اتحادا كبيرا للشعوب ذات الأصل الإيرانى، ازدهر من القرن الخامس قبل الميلاد إلى القرن الرابع الميلادى، ومد نفوذه فى شرق أوروبا بين نهر الدون وجبال الأورال.
ثم تعاقبت على الفضاء الجغرافى الذى سيظهر فيه الروس قبائل القوط الجرمانية، التى تمركز نطاقها الجغرافى فى شرق أوروبا، فى نطاق امتد من شمال البحر الأسود إلى بحر البلطيق، ومن نهر الفولجا إلى نهر الدانوب. وتمكنوا فى نهاية القرن الرابع الميلادى من الإغارة على الإمبراطورية الرومانية وتخريبها.
ثم ظهرت قبائل «الهون» فى الشطر الشرقى من هذا الفضاء الجغرافى، وهم شعب بدوى عاش فى أوروبا الشرقية، والقوقاز، وآسيا الوسطى، وذلك فى الفترة الممتدة من القرن الأول الميلادى وحتى القرن السابع الميلادى.


روس فى زمن الخزر

فى أعقاب ذلك توالى على الفضاء الجغرافى الذى سيظهر فيه الروس كلٌّ من القبائل التُّركية ودولة الخزر ذات السلطة اليهودية فى الحكم، والشعب متعدد الديانات فى الطبقات الأدنى، وعلى مشارف هذه الدولة سمعت شرق أوروبا لأول مرة باسم قبائل الـ«روس».
لم تكن كلمة روس «Rhos» تطلق فى تلك الحقب التاريخية على مكان أو دولة، بل على تلك القبائل ذات الصلة بعشائر «الفرنجية» ذات الأصل الإسكندناڤى، والتى كانت قد حكمت الشعوب السلاڤية فى شرق أوروبا. وقد رأت بيزنطة فى التحالف مع الروس ضمانا لاستمرار الحركة البرية للتجارة فى القارة الأوروبية.
لم تكن روسيا الفرنجية متقوقعة على طريق التجارة بين بحر البلطيق والبحر الأسود، بل كانت لها من البداية طموحات فى المناطق المجاورة؛ ولعل هذا ما جعل بيزنطة ترحب بالسفارة التى أرسلها الروس للتحالف؛ لأنها ستضمن لهم راحة من «البرابرة الشماليين».
من جانبهم سعى الروس للتحالف مع بيزنطة كرد فعل على سفارة أخرى أرسلها ملك بلغار الفولجا فى عام 921 ميلادية إلى الخليفة العباسى «المقتدر بالله» طالبا منه التعريف بالإسلام لاتخاذه دينا لمملكته؛ تمييزا لها عن يهودية مملكة الخزر، ووثنية القبائل الروسية، ومسيحية بيزنطة. وقد تحقق ذلك بالفعل فى العام التالى على يد رسالة عرفت باسم سفارة بن فضلان.
لم يترك اختيار شعوب البلغار للإسلام دينا بدائل كثيرة أمام الروس. فإلى الغرب كانت المسيحية الكاثوليكية فى كل من بولندا والمجر والدويلات الجرمانية، وفى الجنوب كانت مملكة الخزر اليهودية وما وراءها من دولة الخلافة الإسلامية.
ولقد عثر الروس لدى بيزنطة على الدستور المفقود لصياغة دولتهم الشابة التى كانت تشق طريقها فى عالم متنازع القوى، وتعلم الروس من بيزنطة الكثير، وأهم ما تلقفوه ذلك التقليد الرومانى القائم على إقامة «مملكة الرب» التى تحكم العالم باسم المسيح.
ويشبه الخيار الذى وصلت إليه روسيا الفرنجية ذات المسار الذى اتخذته مملكة الخزر، حين اعتنق الخان الخزرى اليهودية فى عام 740 م كتمييز دينى عن الإسلام العربى فى الجنوب، والمسيحية البيزنطية فى الغرب. وكان الخزر قد استعانوا ببعض القبائل الروسية فى حروبهم ضد الخلافة الإسلامية التى كانت قد وصلت قلاعها المتقدمة إلى منطقة القوقاز.
ثم خاض الخزر حروبا ضد روسيا الفرنجية للسيطرة على شرق أوروبا، فنجحوا فى إخضاع العاصمة الروسية «كييف» لسيطرتهم، وأجبروا الروس على دفع الجزية، وذلك قبل أن يتمكن الروس من رد الخزر إلى شمال القوقاز ثانية ويدمروا فى عام 965 ميلادية عاصمتهم «إتل» على بحر قزوين.

روس كييف وعصر الفتنة الأميرية

انتهت «روسيا الفرنجية» بعد أن عاشت قرنين من الزمن (بين عامى 862 و1054م). وبعدها تبدأ روسيا مرحلة جديدة حول مدينة كييف.
ولأن كييف كانت المركز فقد اصطلح الباحثون على تسمية تاريخ الدولة الروسية منذ منتصف القرن الحادى عشر باسم «روسيا كييف»، ويمتد هذا التاريخ حتى منتصف القرن الثالث عشر حين سقطت فى أيدى المغول.
تمثل «روسيا كييف» المرحلة الأولى من تكون الدولة الروسية وشملت نفس الرقعة الجغرافية التى كانت قد شغلتها «روسيا الفرنجية»، لكن «روسيا كييف» لم تعمر طويلا، وعاشت قرنيْن من التفكك امتدا من القرن الـ11 إلى القرن الـ13. ويطلق المؤرخون الروس على هذا العصر مسمى «عصر الفتنة الأميرية» أو «عصر الإقطاعيات».
وبين عامى 1228 و1462 خاض الروس معارك مع الجيوش المغولية الغازية فى عديد من النزاعات والمعارك قبل أن ينهزموا. وفى النهاية تمكن أمير موسكو من أن يحظى بثقة الخان المغولى، الذى فوضه فى جمع الجزية من بقية الإمارات التى كانت تتقاتل فيما بينها.
تتسم المرحلة المغولية من التاريخ الروسى (القرون من 13 إلى 15) بخضوع روسيا لإمبراطورية المغول الوافدة من السهوب البدوية الرعوية؛ وهو ما ترك أثره على روسيا لفترة من الزمن، بل فتح عينيْها على مفهوم الإمبراطورية البرية الآسيوية، وسينعكس ذلك على مرحلة ما بعد المغول ولا سيما فى مرحلة «روسيا المسكوفية» مع نجاح الأمير إيفان الثالث، (إيفان العظيم) (1462 ــ 1505م) فى تحقيق الاستقلال عن المغول، حين شرع منذ عام 1480م فى توحيد باقى الإمارات، ومعه تبدأ روسيا رحلة جديدة فى عملية توحيد وإخضاع الغابات والسهوب لسيطرتها، بما فى ذلك فضاء القبيلة الذهبية التى ورثت إمبراطورية المغول.
وكما أن موسكو استلهمت من بيزنطة رسالة الممالك الأرثوذكسية على البحر المتوسط، استلهمت من المغول حضارة البر الآسيوى، وأصبحت بذلك مؤهلة لمواجهة حاسمة مع دول أوروبا الكاثوليكية والبروتستانتية، ومشحونة بطاقة هائلة للتوسع والتوغل.

حملات عسكرية فى الجهات الأربع

بعد وفاة إيفان العظيم، أكمل فاسيلى الثالث (1505 ــ 1533م) ثم إيفان الرابع المعروف بإيفان الرهيب (1533 ــ 1584م) أكبر عملية توسع جغرافى شهدها التاريخ الروسى منذ ميلاد الدولة الروسية. وتمكن كلاهما من الانتقال من «تجميع الأرض» إلى «ابتلاع الأعداء» أى تأمين الحدود بغزو الأقاليم المجاورة، وبشن حملات عسكرية فى الجهات الجغرافية الأربع.
واستمرت هذه السياسة حتى عهد ميخائيل الأول فى عام 1613 الذى تبدأ معه حقبة «آل رومانوف» التى ستعرف معها باسم «إمبراطورية روسيا القيصرية» التى ستعمر ثلاثة قرون كاملة حتى نشوب الثورة الشيوعية فى عام 1917.
من أجل الحصول على منفذ بحرى، أشعل القيصر بطرس الأكبر حروب بحر البلطيق لإقامة مدينة سان بطرسبرج فى مطلع القرن الـ 18، كما اندفعت روسيا فى عهده نحو البحر المتوسط عبر حروبها مع تركيا للسيطرة على البحر الأسود، وتقدمت إلى البحار الداخلية فغزت شمال فارس فى النصف الأول من القرن الـ 18، ونجحت فى تحويل بحر قزوين إلى بحيرة روسية.
تحت تأثير بطرس الأكبر خلقت روسيا مفهوم النطاقات الجغرافية العازلة، فضمت فنلندا فى عام 1809 لتصنع منها حاجزا أمام السويد، ولتحقيق الحماية لمدينة سان بطرسبرج على بحر البلطيق.
كما أن استيلاء روسيا على إقليم القوقاز بين 1800 و1840 مكنها من خلق منطقة عازلة بينها وبين تركيا وإيران، كما ضمت أواسط آسيا الإسلامية فى النصف الثانى من القرن الـ 19 لتجعلها مناطق عازلة بينها وبين بريطانيا فى الهند.
خلال الفترة الممتدة من القرن الـ18 إلى القرن الـ20 ورثت روسيا النهج الذى أرساه «بطرس الأكبر» فى مرحلة تطوير التوسعيْن البرى والبحرى فى الأراضى الروسية فى جميع الاتجاهات، وحين ولجت روسيا إلى القرن العشرين كانت قد صنعت أكبر إمبراطورية بلغتها فى تاريخها، فقد اتصلت حدودها من مشارف اليابان والصين حتى تخوم الإمبراطوريات الأوروبية فتماست مع ألمانيا والنمسا ــ المجر ورومانيا، وامتدت من الدائرة القطبية الشمالية بلا منافس حتى تماست فى الجنوب مع الإمبراطورية العثمانية، ووصلت إلى فارس وحدود الإمبراطورية البريطانية فى أفغانستان والهند.
وإثر هزيمتها فى الحرب العالمية الأولى، انسحبت روسيا إلى عقر ديارها، وعندما اشتعلت الثورة الشيوعية فى أكتوبر 1917 فى ظل أجواء الجوع والاضطراب والفوضى وسقوط القيصرية، سارعت فنلندا وليتوانيا وإستونيا ولاتفيا وبولندا وأوكرانيا ومولدوفا للاستقلال عن الإمبراطورية الروسية المنهارة.


روسيا السوفيتية
ربما كان فلاديمير لينين (1917 ــ 1922) استثناء فى خطط التوسع فى تاريخ روسيا، فلم تكن لدى قائد الثورة الشيوعية فرصة للتفكير فى حجم الرقعة الجغرافية لروسيا فى وقت كانت بلاده تشهد حربًا أهلية واضطرابًا داخليًّا لإرساء الفكر الشيوعى وإخراج القوات الأجنبية من البلاد.
لكن جوزيف ستالين (1922 ـ 1953) عاد إلى الفكر الروسى القديم المغرم بزحزحة الحدود والتوسع. وتمكن من استدعاء سياسة تأمين التخوم خلال تحضيره للمواجهة مع ألمانيا فضم كاريليا الفنلندية ودول البلطيق فى عام 1940، بعد أن كانت تلك الدول قد تمتعت باستقلالية انتقالية حين سقطت القيصرية فى عام 1917. وتمكن ستالين بعد الانتصار فى الحرب العالمية الثانية من السيطرة على القسم الشمالى من ألمانيا الشرقية، وشرق بولندا، وشرق رومانيا.
سرعان ما تمكنت الشيوعية من إخماد المطامح القومية، فاعتبرت القومية محض أوهام، ومجتمعات متخيلة تستند إلى أساطير ملفقة ورموز مختلقة. واستخدمت فى سبيل ذلك مختلف السبل القسرية.
وفى نهاية الثمانينيات من القرن العشرين، بدأت الحركات القومية تمثل للبناء الشيوعى خطرا يهدد «أزمة بقاء الاتحاد السوفيتى» الذى كان اتحادا ضخما تحكمه أقلية سلاڤية مع تمثيل رمزى لأغلبية من القوميات الأخرى. كان السلاڤ يمثلون النسبة الأقل فى وقت كانت باقى القوميات، وخاصة فى وسط آسيا، قد زادت بمعدل 75%، وهو ما عُدَّ «العدو الكامن» فى داخل البيت السوفيتى.
ومثل عديد من إمبراطوريات العالم، جاءت هزيمة الاتحاد السوفيتى من الداخل، كان الاتحاد السوفيتى أكبر عدو لنفسه. ويظن البعض أن الانهيار كان صدمة ومفاجأة، لكن المؤرخين كانوا يتوقعون حدثًا زلزاليًّا فى آخر عقدين من عمر الاتحاد السوفيتى الذى انفرطت فى ديسمبر 1991 حبات عقده لتفقد روسيا دول البلطيق وأوكرانيا وبيلاروسيا ومولدوفا، ويتزحزح موقعها الجغرافى بعيدا عن الغرب الأوروبى، ويقترب أكثر نحو الشرق الآسيوى.
ومع انهيار الاتحاد السوفيتى حلت الهيمنة الأحادية للولايات المتحدة الأمريكية محل القطبية الثنائية السابقة. وترتب على ذلك تفكك المعسكر الاشتراكى وأهم أذرعه العسكرية الممثلة فى «حلف وارسو»، واحتل الناتو مواقع وارسو التقليدية. واندفعت الولايات المتحدة تستغل الفرصة أفضل استغلال وتملأ الفراغ المتكون بعد انحسار المد الشيوعى.

ميراث يلتسين
بعد التفكك السوفيتى حاول رئيس روسيا بوريس يلتسين التصرف وفق سياسة الأمر الواقع، فسلم تسليما واضحا بأن القطبية الأحادية أصبحت حكما لا مرد له، وأنه يجب الاعتراف بهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم كحقيقة، وفى مثل هذه الظروف يبقى لروسيا (باعتبارها القوة الأكثر ثقلا فى فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتى) خيار واحد: الاندماج فى العالم ذى المركزية الغربية، والقنوع بشغل مكانة تتناسب مع ما تتيحه الموارد الاقتصادية والإستراتيجية والاجتماعية لروسيا الاتحادية.
تحت قيادة يلتسين، تجرعت روسيا آلام هذه النتيجة اتساقا مع المثل الشهير: «إذا لم تستطع أن تقهر أعداءك فانضم إليهم!». واعتبر المفكرون الروس أن هذه النتيجة استسلام كامل وليس فقط نهاية القطب الثنائى، ومع هذا الاستسلام تخلت موسكو عن أى محاولات لاستعادة نفوذها فى الدول المجاورة ورفعت راية بيضاء تقر فيها بتبعيتها للغرب والاعتراف بصواب سياساته ومناهجه.
فى النصف الثانى من عقد تسعينيات القرن العشرين (المشئوم على روسيا)، عين يلتسين رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الروسية، يفجينى بريماكوف، وزيرا للخارجية (1996 ـ 1998)، ثم رئيسا للوزراء (سبتمبر 1998 ـ مايو 1999).
ويعتبر كثيرون أن بريماكوف هو الأب الشرعى لما قام به فلاديمير بوتين لاحقا من سياسات خارجية، وقد جاء بوتين بعد وقت قصير من رئاسة بريماكوف ومن جهاز المخابرات نفسه، ليترأس الحكومة، وكان نموذج بريماكوف أقرب النماذج لعقل بوتين ورؤيته.
لقد أسس بريماكوف سياسة متجذرة فى الانتماء القومى بمحاولة الدفاع عن المصالح الوطنية الروسية فى العالم أحادى القطبية، مع الاعتراف بخطورته، وكذلك الحفاظ على العلاقات مع الحلفاء التقليديين والإفلات من دائرة الإملاء الأمريكى والتبعية لها.


بوتين يحكم قبضته

خلال مسيرته فى حكم روسيا من عام 2000 إلى الحرب على أوكرانيا فى عام 2022، اتبع بوتين عدة خطوات جيوسياسية تمثل علامات على منهجه المركزى فى إدارة الموارد الجغرافية فى روسيا فى مرحلة ما بعد يلتسين وكانت حرب الشيشان هى بوابة بوتين لدخول التاريخ الروسى.
وبعد أن أحكم قبضته على الشيشان تخلص بوتين من طبقة «الأوليجارشيا» أو رجال المال والأعمال الذين راكموا الثروة بسرعة فى تسعينيات القرن العشرين خلال عهد يلتسين، منتهزين الثغرات التى تمت فى عملية الخصخصة والتربح الهائل من بيع القطاع العام وممتلكات الدولة الروسية.
إحدى أكثر المزايا التى حصلت عليها روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتى هو التنوع الإعلامى وكسر احتكار صوت الحزب الواحد. غير أن هذه المزايا استغلت استغلالًا ضارًّا بالكرملين؛ لأن أصحابها هم أنفسهم أعضاء طبقة الأوليجارشيا سابقة الذكر.
حاولت طبقة الأوليجارشيا استخدام القنوات الإعلامية فى التأثير المباشر على عقول المشاهدين الروس وعلى الرأى العام من خلال الصحف والمجلات التى يمتلكونها. كان الهدف واضحا وبسيطا: «استخدام وسائل الإعلام سوطا على الكرملين إذا حاول أن يقلص نفوذ وأموال الأوليجارشيا».
وقد أخطأ هؤلاء حينما واصلوا الضغط على الرئيس الروسى الجديد (بوتين)؛ ظنًّا منهم أنه سيسكت على النقد والتهكم والسخرية والابتزاز. غير أن بوتين لم يقبل بهذا، وبدأ خطوات التخلص منهم، وتأميم أملاكهم للدولة الروسية بعد اتهامهم بالتهرب الضريبى ولا سيما شركات النفط والغاز.
وفى المقابل خلق الكرملين طبقة جديدة من الأوليجارشيا أكثر تضامنا مع بوتين وسياساته ولا سيما فى السنوات العشر الأخيرة من حكمه حتى اندلاع حرب أوكرانيا فى 24 فبراير 2022.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved