أحمد عبد ربه: قراءة التاريخ ليست صعبة ولا مملة.. وليست للمثقفين فقط
آخر تحديث: الجمعة 6 سبتمبر 2024 - 10:38 م بتوقيت القاهرة
تصوير ــ إسلام صفوت
حوار ــ عبدالله محمد إسماعيل
من نابليون ومحمد على إلى حريق القاهرة.. كتاب جديد يكشف جوانب خفية من تاريخ مصر الحديث
فى التاريخ .. لا يوجد بشر مقدس سواء كان حاكمًا أو محكومًا
محمد على كان رجل عصره لكنه لم يكن معصومًا
الاستعمار كان عائقًا أمام تطور مصر
فى رحلة عبر الزمن، وبعين فاحصة وعقل متعمق يبحر بنا الدكتور أحمد عبد ربه فى كتابه الصادر عن دار الشروق « من نابليون ومحمد على إلى حريق القاهرة » إلى قلب إحدى أهم الفترات الفارقة فى تاريخ مصر الحديث. هل كانت الحملة الفرنسية فجرًا جديدًا أم بداية لمعاناة طويلة؟ وكيف شكلت هذه الفترة هوية الأمة المصرية؟ يسعى الكاتب، بأسلوب سلس ومبتكر، إلى الإجابة عن هذه الأسئلة الشائكة، مستندًا إلى مصادر موثوقة وتحليلات عميقة. يقدم لنا الكتاب سردًا تاريخيًا شيقًا، يجمع بين الدقة العلمية واللغة الأدبية السلسة، ليضع بين أيدينا رؤى جديدة حول أحداث شكلت مسار تاريخنا.
< ما الذى دفعك لاختيار هذه الفترة الزمنية بالتحديد كمحور للكتاب؟ وهل ترون أن هناك علاقة بين الأحداث التى تناولتها والتحديات التى تواجهها مصر اليوم؟
ــ لابد أولاً من إيضاح أن الكتاب يغطى فترة طويلة نسبيا بمعنى أدق نحن نتحدث عن أكثر من حقبة زمنية تمتد لحوالى قرن ونصف القرن، لكن الذى يجمع بين هذه الحقب جميعا أنها فترة التأسيس الحديث لمصر كدولة لها مؤسسات وحدود وسيادة وشخصية قومية.
ولقد قمت باختيار هذه الفترة تحديدا لعدة أسباب، أهمها أنها فترة جدلية للغاية بحسب المؤرخين الذين ينقسمون بوضوح حول تقييمها بين وصفها بأنها فترة تأسيس مصر الحديثة وبين هؤلاء الذين يرونها فترة مليئة بالاستغلال للشعب المصرى إلى حد استعباده واستغلال خيراته ونهب آثاره.. إلخ وكذلك لأنها فترة غنية بالكثير من الأحداث التى شكلت وعينا ــ نحن الشعب المصرى ــ بالأرض والحضارة والحدود والسيادة والشعب الذى نطلق عليها الآن «جمهورية مصر العربية».
وبكل تأكيد هناك علاقة قوية بين هذه الفترة وبين المرحلة الحالية، وتتمثل هذه العلاقة فى أن السؤال المطروح علينا كدولة وشعب ونظام سياسى منذ عهد محمد على لم تتم الإجابة عن بعد، وهو: «ما الذى تعنيه التنمية؟» منذ عهد محمد على وهناك محاولات جادة للتنمية لكنها لم تكن أبدًا مرضية لأن تنمية الأرض والبنية التحتية والمؤسسات لم تمتد بعد إلى الشعب نفسه، فالتنمية البشرية فى معظم مراحلنا التاريخية مازالت غائبة عن معادلة التنمية والتحديث.
كذلك فهناك سؤال آخر مازالت الإجابة عنه غير واضحة فى تلك الفترة وفى العصر الحالى، وهى المتعلقة بالسؤال حول حدود العلاقة بالأجنبى سواء كان دولا أو منظمات أو شخصيات أجنبية. هذه العلاقة المعقدة مازالت ملتبسة وكذلك كانت فى تلك الفترة التى يغطيها الكتاب، فهل يساهم الأجنبى فى التنمية والحداثة أم لا؟ وهل الاستعانة به لمواجهة تحديات خارجية استقواء بالخارج وخيانة أم لا؟ وهل يعمل الأجنبى من أجلنا أم من أجل مصلحته الذاتية… إلخ كل هذه الأسئلة مازالت مطروحة علينا إلى الآن والكتاب يسعى لتقديم بعض الإجابات أو المساهمة فى الإجابة عليها.
< ما هى أهم المصادر التى اعتمدتم عليها فى كتابة هذا الكتاب؟ وكيف واجهتم تحدى التوثيق فى ظل نقص بعض المصادر؟
ــ اعتمدت فى الكتاب بالأساس على المصادر الثانوية، لأن هدف الكتاب هو تقديم قراءة للتاريخ، بمعنى أن الكتاب لا يقدم تحليلا (فى التاريخ)، لكنه يكتب (عن) التاريخ فى شكل حكايات قصيرة لإيضاح أهم النقاط المفصلية فى تطور مصر السياسى خلال تلك الحقبة التاريخية. والحقيقة التحدى الذى واجهته لم يكن فى التوثيق أو فى نقص المصادر، ولكن فى تعدد المصادر وتعارضها واختلاف روايتها. كانت هذه مشكلة كبيرة، ولكنى قمت بالمقارنة بين هذه القراءات وفى بعض الفصول – مثل الفصل السابع الذى حمل عنوان «كيف نقرأ التاريخ» ــ حيث أوضحت فيه اختلاف الروايات التى قدمها المؤرخون لاختلاف زاوية الرؤية وكذلك موقع المؤرخ من الأحداث. فهناك فارق كبير بين أن تؤرخ لفترة معاصرة أو بين أن تكتب عن تاريخ فترة ماضية قريبة مازال صناع الأحداث فيها يعيشون معك، وبين أن تكتب عن فترة قديمة بعيدة مات معظم أو كل صناعها ولم يتبق منها سوى الوثاىق والكتب.
علينا أيضا أن نلاحظ أن هذا العصر (١٨٠٥-١٩٥٢)، لم يكن قد شهد التطور التكنولوجى فى التصوير والتوثيق الذى شهدناه فى مرحلة ما بعد الملكية وحتى اللحظة، فعدم وجود مواد تلفزيونية مسجلة لمعظم أحداث هذه الفترة داخل مصر يجعل الاعتماد بالأساس على الوثائق والكتب والشهادات المتواترة.
وأخيرا يكون من الصعب فصل شخصية المؤرخ من حيث صفاته الشخصية وأيديولوجيته وقناعته الدينية، ومصالحه… إلخ عن الأحداث التى يكتب عنها، لذلك كنت حريصا فى الكتاب أن أقول للقارئ بوضوح أننى أقدم قراءة للتاريخ، ولكنى لست مؤرخًا، وهذا فى رأى دور الأكاديمى المتخصص فى العلوم الاجتماعية ولا سيما العلوم السياسية كما هو الحال معى.
< ما هى التحديات التى واجهتك أثناء كتابة هذا الكتاب، وكيف تمكنت من التغلب عليها؟
ــ بالإضافة إلى ماسبق أن ذكرته، كان أحد التحديات الكبيرة التى واجهتنى أيضا فى هذا الكتاب هو الكيفية التى يمكن بها تبسيط اللغة السردية للقارئ. فعدد كبير من الناس العادية قد يستهويها الروايات الخيالية أو القصص القصيرة أو الكتب المقالية، لكن يجدون صعوبة فى قراءة كتب التاريخ، لذلك حاولت تقديم هذا الكتاب فى شكل حكايات قصيرة فى شكل مقالات متتابعة ومترابطة، وقد وجدت أن هناك تقبلا إيجابيا لهذا الأسلوب ونفدت الطبعة الأولى من الكتاب بعد عدة أشهر فقط وكان هذا مفاجأة سارة لى.
< ما هى الرسالة التى ترغب فى إيصالها للقارئ من خلال هذا الكتاب؟
ــ هناك ثلاث رسائل كبرى أردت إيصالها:
الأولى: أن قراءة التاريخ ليست صعبة ولا مستحيلة ولا مملة، الأمر يتوقف على طريقة العرض وبالتالى التاريخ ملك للجميع وليس للطبقة التى نطلق عليها «المثقفين» فقط.
الثانية: أن التنمية والتحديث للدولة ومؤسساتها وبنيتها التحتية أمر لا غنى عنه أبدا، لكنها لن تكتمل دون بناء وتحديث الإنسان وتطوير قدراته وسد احتياجاته الأساسية، هذا ما نسميه «التنمية البشرية» وهى جوهر عملية التنمية وبدونها لا يكتمل التحديث أبدا.
الثالثة: أننا بشر فلا يوجد بشر مقدس سواء كان حاكم أو محكوم، فمن يكتب عن التاريخ بشر، ومن يصنع التاريخ بشر، ومن ثم فمسألة «النوستالجيا» أو الحنين إلى الماضى الذى نتوهم دائما أنه كان أفضل من الحاضر هى خدعة عقلية ونفسية، كل مرحلة تاريخية لها نواقصها ومن هنا فكما نقرأ التاريخ كرواية شاملة لا بد أيضا أن نقدم رواية للتفاصيل وعند الجمع بين الروايتين (الرواية الكلية والرواية التفصيلية) نستطيع وقتها فقط إدراك حقائق كل حقبة زمنية بدون مبالغات فى تقديس أو ذم أى حاكم أو فترة زمنية.
< كيف ترى تأثير الحملة الفرنسية على مصر، وما هى أهم التغييرات التى أحدثتها؟ وهل كانت الحملة الفرنسية بداية نهضة مصر أم احتلالًا استعماريًا؟
ــ الحقيقة أن كلا الأمرين صحيح، أعلم أن كثيرون لا يفضلون هذه الإجابات ويرونها «مسك للعصا من المنتصف» لكنها قناعتى، والأمر لا يتوقف على الحملة الفرنسية فقط، ولكنه يمتد للظواهر الاستعمارية عموما، فالاستعمار كظاهرة تاريخية قدم بعض مفاتيح النهضة للدول التى قام باستعمارها، ولكنه فى الوقت نفسه قام باستغلال خيراتها ومواردها وتصرف بشكل أنانى للغاية حينما تعارضت مصالحه مع مصالح الشعوب التى قام باحتلالها. ومن هنا بالطبع فرنسا كانت محتلة لمصر، وكذلك بريطانيا، استفادت مصر من بعض ما قدمه الاستعمار سواء من الناحية التاريخية أو الصحية، لكننا لم نستفد سياسيا ولا اقتصاديا، بل تم استغلالنا بشكل انتهازى والأمر كما قلت لا ينطبق على فرنسا ومصر فقط، ولكنه ينطبق على كل العلاقات بين القوى الاستعمارية ومستعمراتها.
< كيف ترى دور القوى الأجنبية فى الأحداث التى تناولها الكتاب؟
ــ كان دورا استغلاليا بامتياز، فإنجلترا وفرنسا قامتا باستغلال الموارد المصرية لمصالحهما الخاصة، وحتى حينما حاولت الولايات المتحدة الأمريكية أن تقدم نفسها على الساحة الدولية فى عهد الرئيس وودرو ولسون بعد نهاية الحرب العالمية الأولى مبشرة دول العالم التى تم استعمارها بحق تقرير المصير، فإن هذا الحق لم يتم منحه للجميع، وتم تجاهل العديد من الوفود التى ذهبت إلى مؤتمر باريس الذى تلا انتهاء الحرب، فالدول الغربية فى معظمها تعاملت مع التاريخ والسياسية والاقتصاد والحقوق على أنها مقصورة على الرجل الأبيض الغربى فقط وقد ظل هذا قائما حتى الحرب العالمية الثانية على الأقل.
< ما هى الدروس التى يمكن أن نستخلصها من هذه الفترة التاريخية لفهم التحديات التى تواجه الدول النامية فى الوقت الحاضر؟
ــ الدرس الأهم هو أن تطوير استراتيجية للتنمية والتحديث بمعناهم الذى يشمل التنمية البشرية كما أوضحت أعلاه هو أمر حتمى للتقدم، وكذلك فإن الاعتماد على الذات وتطوير استراتيجيات قومية محلية للتنمية هو أيضا أمر ضرورى، لتحقيق التقدم. هذا بالطبع يجب ألا يُفهم على أنه دعوة إلى الانعزال عن الغرب المتقدم، بالطبع لا، فلا مكان للعزلة فى العصر الحالى، ولكنها دعوة لتطوير استراتيجيات التنمية والتحديث بما يتفق مع ظروفنا الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، فللأولويات القومية أفضلية عن غيرها ولكن بشرط أن يتم تحديد هذه الأولويات من خلال حوارات مجتمعية جادة وعملية ديموقراطية يتم فيها تمثيل الناس للتعبير عن رؤيتهم وأوجاعهم وأحلامهم.
<هل هناك أى أحداث أو شخصيات تاريخية تعتقد أنها لم تحظ بالاهتمام الكافى فى الكتاب؟
ــ كما أوضحت، الكتاب لا يهدف إلى التركيز على شخصية بعينها أو فترة بعينها بل هو تقديم سردية تجمع بين الشمول والتفاصيل فى شكل حكايات، ولكن لو المقصود بالسؤال هو أى من الفترات التاريخية التى تناولها الكتاب التى أود أن أمنح لها المزيد من الوقت والجهد والتركيز، فبكل تأكيد السنوات التى تلت معاهدة ١٩٣٦ وحتى حركة الضباط الأحرار فى ١٩٥٢، فهذه الفترة غنية بالأحداث والأشخاص التى تحتاج المزيد والمزيد من البحث والتحليل.
< ما هو الأسلوب الذى اتبعته فى كتابة هذا الكتاب؟ هل كان هناك تحديات خاصة فى الجمع بين الجانب التاريخى والأدبى؟
ــ اتبعت أسلوب الحكايات القصيرة وقد استلهمت هذا الأسلوب من التدريس فى الجامعة فبحكم إنى أقوم بتدريس مواد نظرية من ضمنها العلوم السياسية والتاريخ والأديان وعلاقتها بالسياسة ودراسات المناطق… إلخ، فقد وجدت أن الطلاب يندمجون فى المحاضرات التى أقوم فيها بعرض المادة العلمية فى شكل حكاية، وهذا ما طبقته فى الكتاب وأعتقد أن هذا الأسلوب ثبتت فاعليته. والحقيقة لا توجد أى تحديات فى الجمع بين الجانب التاريخى والأدبى، ما اكتشفته من تجربة مشروع هذا الكتاب أن الكتابة عن التاريخ بأسلوب أدبى أسهل بكثير من الكتابة عن الحاضر بأسلوب أدبي! التاريخ يرتبط فى أذهننا بصور تاريخية عن أشخاص أو أحداث، وبالتالى يمكن للكاتب أن يقدم إبداعه فى التعبير عن هذه الصور بأسلوب أدبي، أما الحاضر فالناس تعيشه وتتفاعل معه بآلامه و أحلامه ومن ثم الناس تصنع أسلوبها الأدبى الخاص بالواقع الذى تعيشه، فيكون هنا التحدى أن تعبر عن هذا الواقع بأسلوبك الأدبى ككاتب أو مؤرخ، لكن الماضى والمستقبل، يمكن للكاتب بمرونة ويسر أن يعبر عنهم بدون قيود الحاضر.
< كيف ترى أهمية استخدام اللغة السلسة والمبسطة فى كتابة التاريخ؟
ــ أعتقد أنه أمر لا غنى عنه! تبسيط العلوم والإنسانيات بشكل عام سواء كنا نتحدث عن العلوم الاجتماعية أو التاريخ أو الفلسفة أو الدين هو أمر لا غنه عنه. وأعتقد أن تجربتى فى الكتابة الأسبوعية لجريدة الشروق التى تمتد الآن لـ١٢ عاما علمتنى أن التبسيط غير المخل هو أمر لا غنى عنه لو كان الهدف بالفعل هو تثقيف الناس. وبما أننى على المستوى الشخصى أرى أن التاريخ ملك للناس فأعتقد أن تبسيطه أمر ضرورى، ولا أعتقد أن هناك تعارضا بين التبسيط والدقة أو المنهاجية ولا يقلل هذا من الكاتب أو المؤرخ أو المثقف بصفة عامة.
< ما هى خططك المستقبلية فى مجال الكتابة التاريخية؟
ــ لدى مشروعان حاليا مع دار الشروق للنشر، المشروع الأول حول تاريخ السياسة الدولية والقانون الدولى منذ بداية القرن العشرين وحتى اللحظة أتناول فيه محاولة الإجابة عن سؤال ازدواجية المعايير الدولية (ولا سيما الغربية) فى التعامل مع الدول والقضايا الحقوقية مثل القضية الفلسطينية أو قضية سد النهضة وغيرهم من خلال تقديم حكايات مختصرة عن أهم الأحداث الدولية والإقليمية خلال تلك الفترة. فى هذا المشروع اتبعت نفس أسلوب كتابى «من نابليون ومحمد على إلى حريق القاهرة…»، حيث اللغة المبسطة والفصول القصيرة نسبيا وهو موجه بالأساس للقارئ العادى المهتم بالسياسة الدولية. وقد قمت بتسليم المسودة الأولى لدار الشروق بالفعل منذ أيام قليلة.
أما المشروع الثانى مع دار الشروق هو مشروع لترجمة كتاب صدر حديثا للإعلامى والكاتب الأمريكى فريد زكريا يقوم بتحليل تاريخ الثورات التى غيرت من تاريخنا الحديث بدءا من الثورة الصناعية ووصولا إلى ثورة المعلومات والتكنولوجيا المعاصرة، وأحاول فى هذا المشروع أيضا تبسيط لغة الترجمة وليكون ملائما للقارئ العادى المهتم.
ومن المنتظر أن يصدر المشروعان خلال العام القادم إن شاء الله.
كذلك فهناك مشروع ثالث لكن مازال قيد الكتابة الأولية وهو مشروع عن المستقبل والتاريخ معا، بمعنى كيف سيكون شكل حاضرنا فى عيون مستقبلنا.