مصطفى الفقي يكتب: سياسات إسرائيل.. مسارات متوازية
آخر تحديث: الإثنين 7 أكتوبر 2024 - 6:50 م بتوقيت القاهرة
سوف تبقى الحرب الإسرائيلية الفلسطينية، وما تبعها من عدوان غاشم على لبنان وغيره من الأراضى العربية أقول سوف تبقى فى ذاكرة شعوب المنطقة لقرون مقبلة، إنها حرب تجاوزت الحدود والأعراف وخرجت عن المسار المعتاد للحروب الإقليمية والمواجهات العسكرية، حرب فيها قدر كبير من العدوانية ومشاعر الانتقام وخطاب الكراهية، ولقد حذرنا كثيرًا من غياب الحسابات الموضوعية والدقيقة لقرارات كل طرف، والتى تؤدى فى نهاية المطاف إلى نزيف من الدم إلى جانب الخسائر السياسية والخراب الاقتصادى الكبير وتحويل المدن إلى خرائب وأشلاء تحت الأنقاض وأحزان لا تزول مع الزمن، فقرار حركة حماس - مع تسليمنا بحق المقاومة المشروعة ضد الاحتلال واتباع مسار الكفاح المسلح - جانبه التوقيت المناسب كما لم يكن الأسلوب معتادًا والنتائج لم تكن محسوبة، فكانت خسائر الجانب الفلسطينى واللبنانى والعربى عمومًا من هذه الحرب أكبر من كل التصورات وأضخم من كل التوقعات، كما أعطى لإسرائيل مبررًا لارتكاب جرائم غير مسبوقة فى التاريخ المعاصر.
ونؤكد أنه مع تسليمنا أيضًا بأن مقاومة الاحتلال - أى احتلال - هى حق مشروع لمن اغتصبت أرضه وتحول شعبه إلى مئات الألوف من اللاجئين والنازحين إلا أن الخطوات المحسوبة والمواقف المدروسة تحتاج دائمًا إلى رؤية بعيدة وحصافة تدرس الأحداث وتستطلع المواقف وتتخذ القرارات فى الوقت المناسب، كما أن مقاومة الاحتلال ليست بالضرورة سيفًا ومدفعًا لكن السند السياسى يبقى فى كل الأحوال أمرًا لازمًا يتقدم المسارات ويشد قاطرة العمل الوطنى إلى مسار يدرك الأبعاد كلها ويرى الآفاق على اتساعها ويتفهم كل ما يدور حوله، والشعب الفلسطينى ومن ورائه الشعب اللبنانى ودول العراق وسوريا واليمن قد شكلت فى مجموعها جبهة مساندة أمام السلاح الأمريكى الباطش والدعم الغربى اللا محدود والغطرسة اللا متناهية لرئيس وزراء إسرائيل جزار غزة وقاتل الأطفال والنساء ومدمر جسور التواصل الإنسانى واحتمالات التعايش المشترك ذات يوم، فالحروب ليست أبدية لكن ما تزرعه فى النفوس وتدسه فى الصدور هو الأبدى الذى قد يستعصى علاجه مدى طويلًا.
ولعلى أطرح ملاحظات على هامش ذلك العدوان الكبير والحرب غير المبررة وردود الفعل الإسرائيلية التى ترقى جميعها إلى جرائم حرب بشهادة المجتمع الدولى، فأقول:
أولًا: إن حصاد ما جرى منذ السابع من أكتوبر 2023، والتى اتخذتها إسرائيل مبررًا لإبراز وجهها الدموى العنصرى العدوانى وذريعة للانتقام من الشعب الفلسطينى على نحو غير مسبوق سوف تظل فى ذاكرة الأجيال الجديدة جراحًا لا تندمل ورصيدًا لا ينضب من الشعور بالظلم والإحساس بالقهر من آلة القمع العسكرية الغاشمة، بل انتقلت إلى تعرية المجتمع الدولى والكثير من مؤسساته والإدارات الأمريكية المتعاقبة بل الغربية عمومًا التى دعمت جرائم نتنياهو والممارسات غير الإنسانية واللا أخلاقية لليمين المتطرف فى إسرائيل، وإذا كنّا نقول دومًا إن الحروب ظاهرة مؤقتة، وأن ذاكرة الشعوب تعرف النسيان وتملك الغفران إلا أن ما جرى يجعل السابع من أكتوبر 2023 مرادفًا للحادى عشر من سبتمبر 2001، ليدرك الجميع أن شهوة الانتقام دائرة مفرغة لا تنتهى أبدًا.
ثانيًا: إن الصراع مع إسرائيل له عدة مسارات عسكرية وسياسية، اقتصادية وثقافية، ولكن يجمع بينها جميعًا ذلك الخبث الأسود والحمق الشديد فقد أخفقت بعض محاولات التطبيع التى سارت مع إعطاء الشعب الفلسطينى حقوقه والتمسك بالثوابت التى تغطيها الشرعية الدولية التى لا تعترف بها إٍسرائيل وتتجاوز الأطر المتعارف عليها حتى فى تاريخ الحروب، والملاحظ هنا أن سياسيات إسرائيل التى تمضى على عدد من المسارات فالحرب الميدانية والعمليات العسكرية فى جانب، بينما الاستطلاع والحرب النفسية وجمع المعلومات والنشاط الاستخبارى تمضى كلها فى جانب آخر ولا تقاطع بين المسارين، فالأهداف بعيدة المدى ولدى إسرائيل تصور تاريخى عدوانى يشكل المستقبل أمامها ويسقط من حسابه دومًا حقوق الشعب الفلسطينى وكرامة الشعب اللبنانى وسلامة باقى الشعوب العربية، ولقد كانت أمام إسرائيل فرصة ذهبية لترميم الجراح ورأب الصدع، لكنها اختارت التمادى فى أساليب الغطرسة والعدوان واغتيال القيادات واصطيادهم كالعصافير! وأنا أزعم هنا أننى لست متطابقًا مع سياسات حزب الله اللبنانى وأساليب حركة المقاومة الإسلامية حماس رغم اعترافى الكامل بحقهما فى المقاومة ما دام الاحتلال الغاصب مستمرًا، لكننى أهمس فى آذان قادتهم إن للمقاومة أساليب مختلفة وطرقًا معروفة ليست كلها عسكرية بالضرورة ولا مواجهات ميدانية، لكن يمكن أن تنصرف أيضًا إلى أساليب أخرى يمكن أن تحقق بها المقاومة نتائج أكبر على المدى الطويل بدلًا من الخطوات غير المسحوبة أو الشعارات الزاعقة، ولننظر إلى ملايين النازحين واللاجئين على خريطة الوطن العربى لندرك أن حساباتنا ليست صحيحة دائمًا، وأنها تمضى أحيانًا على طرق غير مدروسة بل حسابات خاطئة، وأنا أدرك أن من يده فى الماء ليس كمن يده فى النار، وأنا لا أقف موقفًا تعليميًا للمناضلين بعد أن دفع الفلسطينيون، ومعهم أيضًا قطاع من اللبنانيين ضريبة الدم وأعلم جيدًا أن الشهداء والجرحى والأسر المكلومة تفكر بطريقة مختلفة أحيانًا، وأجد مبررًا دائمًا لمشاعر الحزن والأسى التى يعانى منها الملايين من العرب والأحرار فى أنحاء العالم بعد أن غطت جرائم إسرائيل على جرائم أخرى أكبر فى التاريخ لا يمكن أن تنساها ذاكرته أو تسقطها من حساباته.
ثالثًا: إن التوازن الإقليمى واستقرار الشرق الأوسط وعودة الأمور إلى طبيعتها سوف تحتاج ولا شك إلى سنوات مقبلة، وقد لا يتحقق ذلك أبدًا إذا ما استمرت سياسات إسرائيل على ما هى عليه، وظلت الغطرسة ونشر الأكاذيب وترويج الافتراءات هى مقدمات تدفع بها الدولة العبرية التى لا تريد العيش فى سلام مع جيرانها، لكنها تتصور أنه بالقهر والعدوان والتسلط يمكن أن تجد لها مكانًا على خريطة الشرق الأوسط، فالقضية الفلسطينية ليست هى تلك التى كنا نتحدث عنها منذ عدة أعوام، ولا يمكن أبدًا أن تكون حبيسة التعاطف الإنسانى بعيدًا عن التأييد السياسى، كما أن إيران لن تظل هى تلك الدولة التى تصدر أيديولوجية فارسية فى غلاف إسلامى، ولن يظل لبنان ممزقًا فى غياب رئيس الدولة والقيادات اللبنانية الواعية، كما أن الشعب الفلسطينى لن يظل منقسمًا على نفسه بالشكل الذى يسمح بتجزئة القضية وإزالة عناصر تماسكها وعوامل وحدتها.
إن شرقًا أوسط جديدًا سوف يطل على هذه المنطقة من العالم تختلف منطلقاته وتتنوع مظاهره وتتسع آفاقه ولا شك بعد تجربة الحرب المريرة وآثارها الباقية، ما لم يظهر فى إسرائيل جيل جديد يتحدث بلغة مختلفة، ويدرك أن القوة والعنف والإرهاب ليست الوسائل المطلوبة لمسيرة المستقبل، لكن التعاون المشترك والعيش فى سلام واستعادة الحقوق التاريخية للشعب الفلسطينى فى أرضه ووطنه والشعب اللبنانى فى استقراره وكرامته هى مقومات لا بد منها لارتياد المستقبل الذى نريده لأجيالنا القادمة.
هذه قراءة مبدئية لمسرح العمليات السياسية بعد أن ينتهى الفصل العسكرى وتتوقف الطائرات عن إلقاء المتفجرات على العباد والبلاد، وتظهر من بين الركام أصوات جادة تدعو إلى السلام والأمن وتنبذ الكراهية والعنف، وتؤمن بأن الجوار الآمن هو الوسيلة المثلى والأسلوب السليم لإقرار الحقوق وتأكيد الكرامة وفتح الأبواب أمام الشعوب لكى تبنى مستقبل أبنائها وحياة أجيالها القادمة، إن سرعة وتيرة العنف والحروب فى الأسابيع الأخيرة قد توحى بأن المشهد سوف يتغيّر وأن الفصل سوف ينتهى ولن تعود الأمور أبدًا إلى المعاناة الكبرى التى شعر بها الجميع فى كل أقطار الشرق الأوسط ودوله.. دعنا نبحث عن مستقبل أفضل لأولادنا وأحفادنا والقادمين من بعدنا بعد كل هذا الدمار.
نقلا عن: إندبندنت عربية