روسيا وأوكرانيا.. حرب عالمية غير معلنة (3-3): تفسير جغرافي لحرب روسيا والغرب على المسرح الأوكراني

آخر تحديث: الجمعة 8 مارس 2024 - 6:25 م بتوقيت القاهرة

عرض وتحليل- طلعت إسماعيل

• «الناتو» يخرج الدب من الغابة والضحية أوكرانيا
• زيلينسكى يستنجد بالغرب.. وبوتين يستدعى أبطال روسيا التاريخيين
• الأجيال الروسية الجديدة تسأل: هل نحن أمة ولدت لتحارب.. أم ولدت لتعيش وتستمتع بالحضارة؟
• شهية الناتو لابتلاع دول حلف وارسو أشعرت موسكو بالخديعة
• أوكرانيا تخلع العباءة الروسية تحت مظلة أمريكية
• أكبر خسائر روسيا فى حرب أوكرانيا التحاق فنلندا بركب الناتو
• قصف حلف الأطلسى لصربيا شكل إهانة للقوميين الروس

يستمد هذا الكتاب «روسيا وأوكرانيا.. حرب عالمية غير معلنة» أهميته ليس لكونه يأتى فى الذكرى الثانية لاندلاع حرب بين بلدين تبادلا الأدوار فى النشأة والتكوين للأمة الروسية قبل ألف عام، ولا لأنه يروى قصة الصراع الموغل فى القدم بين قوى البر والبحر فى فضاء أورسى تأرجحت هويته بين قوى الغابات والسهوب، بل لكون مؤلفه الدكتور عاطف معتمد عالما جغرافيا ومثقفا موسوعيا خبر ما يكتب عنه، وهو الحاصل على الدكتوراه من جامعة سان بطرسبرج الروسية 2001، قبل أن يتبوأ منصب المستشار الثقافى ورئيس البعثة التعليمية للسفارة المصرية فى موسكو (2014 ــ 2016) ليحط الرحال أخيرا أستاذا فى كلية الآداب جامعة القاهرة.

والكتاب الصادر حديثا عن دار الشروق، يقدم عبر أحد عشر فصلا، وخاتمة «تفسيرا جغرافيا» للحرب الدائرة بين روسيا والغرب على المسرح الأوكرانى، مستعينا بحشد من المصادر باللغتين الروسية والإنجليزية..
ــــــــــــــــ

مع بدء انسلاخ أوكرانيا عن الفضاء الروسى عقب الثورة البرتقالية عام 2004 والانضمام للفضاء الأمريكى وحلف الناتو شعرت روسيا بالخطر، بل والإهانة، ويذهب بعض المؤرخين إلى القول إن الناتو لم يأخذ فى التوسع على حساب روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتى عام1991 فحسب، بل كان ذلك محل تخطيط وتحضير مع أولى علامات خروج دول أوروبا الشرقية من الطوق الأمنى السوفيتى.

وفى هذا الجزء الثالث والأخير من عرض كتاب «روسيا وأوكرانيا.. حرب عالمية غير معلنة»، نركز على الصراع الخفى والمعلن بين حلف الأطلسى وروسيا قبل تفكك الاتحاد السوفيتى وبعد انهيار حلف وارسو وتوالى انضمام دوله إلى الناتو على عكس الرغبة الروسية، ما كان سببا فى خروج الدب الروسى من الغابة لغزو أوكرانيا فى نهاية المطاف فى فبراير 2022.

فقد جاء انهيار جدار برلين فى نوفمبر 1989 وظهور مسعى توحيد الألمانيتين ليكشفا عزم الناتو على ضم ألمانيا الشرقية للحلف، ونجح فى ذلك رغم معارضة آخر رؤساء الاتحاد السوفيتى ميخائيل جورباتشوف.

أما المجر التى أعلنت أنها ستتخذ موقفا محايدا تجاه الناتو سرعان ما رحبت بدعوة الناتو للانضمام إليه، وكذلك فعل عديد من جمهوريات الاتحاد السوفيتى السابق مثل دول البلطيق أو دول الكتلة الشيوعية فى أوروبا، وفى مقدمتها بولندا وتشيكيا.

ويشير الكتاب إلى أن الرئيس الروسى فلاديمير بوتين عادة ما يستشهد خلال انتقاده للحلف الغربى بأن الزعماء الروس المشاركين فى التفاوض مع الناتو بشأن انضمام ألمانيا الموحدة للحلف تلقوا تعهدًا واضحًا من زعماء الناتو بعدم توسعة الحلف على حساب أى دولة شيوعية سابقة.

ويقول الكتاب إنه على الرغم من أن هناك أدلة كثيرة وشهودًا غربيين على ذلك التعهد، لكن يبقى من المؤكد أنه كان تعهدًا بلاغيًّا وليس مكتوبًا ولا موثقًا فى أى اتفاقية. وقد أكد آخر رئيس للاتحاد السوفيتى ميخائيل جورباتشوف فى حوار أُجرى معه فى عام 2014 أن الغرب خدع روسيا ولم يلتزم بتعهداته بعدم ضم أى دولة سابقة فى حلف وارسو المتفكك مع انهيار الاتحاد السوفيتى.

رغبات متضاربة

فى بداية من عام 1993 أبدى عديد من دول حلف وراسو السابقة رغبته فى الانضمام للناتو، ولا سيما جمهورية التشيك، وسلوفاكيا، والمجر، وبولندا، أما أوكرانيا فلم تكن لها أى فرصة للانضمام للحلف، فقد أدرك قادة الناتو أن ضم أوكرانيا يعد استفزازا واضحا لموسكو.

ومن جانبها سعت أوكرانيا لتعزيز أواصر التقارب بأى شكل وأى صيغة مع الناتو، ربما على سبيل تخفف الضغط عليها من قبل روسيا. فالتلويح بالانضمام إلى الناتو كان يعنى ضمنيًّا دفع روسيا لتقديم حزمة إغراءات للإبقاء على أوكرانيا دولة صديقة واستقطابها حتى لا تقع فى «حظيرة» الناتو.

فى يولية ١٩٩٤، حل ليونيد كوتشما محل ليونيد كرافتشوك فى رئاسة أوكرانيا. كان كوتشما يعد قريبا من موسكو مقارنة بالسياسة التى اتبعها سلفه والتى لم تكن تعجب موسكو لتأثرها بوضوح بالمطالب القومية.

حاول كوتشما إرضاء الطرفين: روسيا والغرب، فأخذ يعزز التعاون مع أوروبا والناتو لتخفيف الضغط من قبل روسيا. وفى ذات الوقت لم يكن يتخذ سياسات تستفز موسكو بشأن القضايا الساخنة؛ كى يضمن تدفق الغاز وعدم تهديد اقتصاد بلاده الخاضع لرحمة روسيا.

وخلال عامى 1994 ـ 1998 لاحظ بعض الخبراء أن كوتشما فوض بولندا التى انضمت إلى الناتو كى تأخذ مصالح أوكرانيا بعين الاعتبار فى سياسات الحلف، وخاصة أن كلًّا منهما يعانى مخاوف التهديد الروسى.

حافظت أوكرانيا طوال الفترة من 1994 ـ 1998 على صيغة متوازنة لا تغضب روسيا، ولكنها سعت إلى توقيع مذكرات «الشراكة من أجل السلام» مع الناتو. وهى العلاقات التى انضمت بموجبها روسيا نفسها للتعاون مع الحلف الغربى آنذاك.

قمة تهدئة المخاوف

وفى خطوة بدت ضرورية لتهدئة مخاوف روسيا وقت انعقاد قمة الناتو فى عام 1997 فى العاصمة الإسبانية مدريد، طرح الناتو برنامج التعاون «الناتو + روسيا»، علاوة على ذلك دعت الدول الصناعية الكبرى روسيا ـ غير المصنفة كدولة صناعية ديمقراطية آنذاك ـ إلى مجموعة الدول الصناعية السبع، وتغيير اسم المجموعة إلى مجموعة الدول الثمانى، فى شكل بدا وكأنه هدية لموسكو للسكوت عن سياسات الناتو فى ابتلاع أعضاء جدد من حلف وارسو سابقا.

وعلى الرغم من إعادة انتخاب كوتشما رئيسا فى 1999 باعتباره خيارًا ضروريًّا للاقتراب من أوروبا والابتعاد عن روسيا، فإن أوروبا والناتو هما اللذان فضلا الابتعاد نسبيًّا عن أوكرانيا خشية استفزاز روسيا بعد أن تم ابتلاع دول حلف وارسو السابقة.

كانت أوكرانيا قد لبت بالفعل شروط الولايات المتحدة بالتخلص نهائيًّا من الأسلحة النووية، بل التصديق فى نوفمبر 1994 على معاهدة حظر الانتشار النووى. لكن واشنطن اكتفت مرحليًّا بتقديم بعض المعونات المالية لحكومة كوتشما دون أن تتدخل بشكل كبير.

كان المقابل الذى تلقته كييف بعد تسليم أسلحتها النووية لروسيا هو توقيع الولايات المتحدة وروسيا والمملكة المتحدة على مذكرة بشأن ضمان أمن أوكرانيا وحدودها. وكان ذلك فى ديسمبر 1994 فى قمة منظمة الأمن والتعاون فى أوروبا. ويبدو أن كييف ظلت نحو 10 سنوات مطمئنة إلى تأثير هذه المذكرة، وأن روسيا لن تمس أمنها وحدودها. غير أن ضم القرم فى 2014 كتب كلمة النهاية فى تعويل كييف على هذه المذكرة التى لم تكن تلزم روسيا فعليًّا بشىء.

المزيد من بطاقات العضوية

منذ تلك اللحظة، (ضم القرم) سيغير الناتو من درجة ردود أفعاله وسيعيد ترتيب خططه بشأن الجاهزية العسكرية، وهو ما سيتضح فى السنوات اللاحقة على مدار 8 سنوات من 2014 وحتى 2022 حين قررت روسيا غزو أوكرانيا بعد أن لاحظت أن الدعم العسكرى من الناتو لأوكرانيا ينذر بالخطر.

وعلى مدار هذه السنوات الثمانى نوَّع الناتو مخططاته عبر الحضور بكثافة استخباراتية أكبر فى دول البلطيق الثلاث، إستونيا، لاتفيا وليتوانيا، وتجهيز قوات انتشار سريع وقت الطوارئ.
كما قام الحلف بدعم أوكرانيا عسكريًّا بشكل نوعى دون الانخراط بقوات مباشرة للناتو.

مع الأيام الأولى للحرب الروسية الأوكرانية، ناشد الرئيس الأوكرانى ــ فولوديمير زيلينسكى ـ زعماء الغرب إنقاذ بلاده، داعيا العواصم الأوروبية وواشنطن إلى ممارسات فعلية على الأرض تتجاوز العقوبات الاقتصادية على روسيا محذرًا من أن روسيا تبنى مجددًا ستارًا حديديًّا.

وردًّا على الغزو الروسى لأوكرانيا فى فبراير 2022، قام حلف الناتو بضم مزيد من الدول إلى عضويته من خلال الإعلان فى أغسطس من نفس العام عن انضمام فنلندا والسويد إلى الحلف، بعد 200 سنة من حياد السويد عسكريًّا وأكثر من 7 عقود من حياد فنلندا.

كانت هناك عقبة طارئة وهى رفض تركيا العضو فى الناتو انضمام الدولتين الجديدتين بسبب إيواء السويد معارضين أتراكًا، لكن سرعان ما سوت تركيا الأمر وفق براجماتية أنقرة المشهورة طالما ستكون هناك مكاسب من القضية.

لا يمكن التغافل عن أن من أكبر خسائر روسيا فى حرب أوكرانيا 2022 انضمام فنلندا إلى حلف الناتو. صحيح أن فنلندا دولة محدودة السكان (أقل من ٦ ملايين نسمة) وتبلغ نحو نصف مساحة أوكرانيا، لكن انضمامها إلى حلف الناتو ـ خشية أن تقع فريسة لروسيا مثل أوكرانيا ـ أكسب الناتو إمكانية وضع طائراته وأسلحته المتقدمة بطول ما يزيد على 1300 كم مهددا جبهة القطب الشمالى وعلى مرمى حجر من العاصمة الروسية القديمة «سان بطرسبرج».

هذا الوضع شكل من دون شك خسارة كبيرة لروسيا على المستوى الجيوسياسى، وروسيا تعرف ذلك، ولم تفوت الأمر وقامت بتعظيم الإشهار عن امتلاك الأسلحة النووية الكافية وإجراء تدريبات نووية جديدة فى أكتوبرو نوفمبر من عام 2022.

الشعور بالإهانة

فى عام 2023 استقبل الرئيس الروسى فلاديمير بوتين عددا من المؤرخين للتشاور حول التحديات التى تواجهها روسيا منذ حربها فى أوكرانيا. وبغض النظر عن طبيعة المؤرخين المؤيدين للكرملين أو المجبرين على التأييد، تقدمت أستاذة للتاريخ بعبارات حماسية واثقة وقالت لفلاديمير بوتين: «عدت سيدى الرئيس للتو من صربيا، وحملونى رسالة إليكم، رسالة تضامن وتأييد من الأشقاء والإخوة والأخوات».

يعيدنا هذا المشهد إلى نحو عقدين من الزمن حين وقفت موسكو عاجزة أمام قصف قوات الناتو لصربيا خلال الحرب التى شنها الصرب على البوسنة، وارتكبوا بحق الجمهورية ذات الأغلبية المسلمة جرائم إبادة جماعية وتطهير عرقى فى 1994.

أمام هذه الجرائم طرح مجلس الأمن تصويتا للقيام قصف جوى على الصرب لحماية البوسنة، وهنا استخدمت موسكو حقها فى «الفيتو» ورفضت القرار.

ورغم الرفض الروسى، مضى الناتو بعيدا عن قرارات مجلس الأمن وقام بالفعل بقصف الصرب فيما عُدَّ استهانة بروسيا التى كانت تترنح من صدمة تفكك الاتحاد السوفيتى.

لقد أدركت روسيا بعد سنوات قليلة من تفكك الاتحاد السوفيتى أنها تتعرض لإهانة بالغة من خلال تحطيم حليف مهم ووحيد فى جنوب شرق أوروبا. أى أن الناتو لم يكتفِ فقط بضم أعضاء جدد من دول حلف وارسو، بل قام بشكل موازٍ بتحطيم صربيا.

ولو صدقنا بعض النظريات التآمرية اليوم لقلنا معها إن الناتو دمر أوكرانيا واستفز روسيا لاتباع سياسة حرق الأرض وما عليها؛ كى يخرج أوكرانيا من دائرة الاستفادة منها فى المستقبل كحليف قوى مشترك يمكن التعويل عليه فى إعادة بناء روسيا القوية كقطب دولى.

خلال عقد التسعينيات ظهرت مخاوف لدى عدد من الكتاب الروس مفادها أن ما يحدث فى صربيا هو نسخة أولى لما يمكن أن يحدث فى روسيا. ورغم ما فى هذه المخاوف من قدر من المبالغة فإن عقد التسعينيات المترنح كان بالغ الشدة على روسيا، وفيه ظهرت أزمة الشيشان الساعية للانفصال، وكانت روسيا تتهم الولايات المتحدة بتقديم دعم بالسلاح والمال للمقاتلين الشيشان عبر الأراضى الجورجية وبمشاركة بعض دول عربية سلفية كانت تؤمن آنذاك بنشر الدعوة بالجهاد عبر أراضى القوقاز.

فى أزمة صربيا بفصليْها (1994 ــ 1995 و1999)، تلقت روسيا ضربة قوية، يبدو من الظاهر أن لا علاقة بينها وبين الوضع فى أوكرانيا. غير أن الحقيقة تؤكد أن الإجهاز على صربيا (رغم مبرراته الإنسانية التى لقيت تأييدًا وارتياحًا عالميًّا ولا سيما فى العالم الإسلامى) كان خطرا كبيرا على أوكرانيا التى وجدت نفسها فى وضع صعب للغاية؛ لأنها لا تستطيع أن تخطو أى خطوة نحو الناتو وروسيا فى حالة استفزاز كامل.

ويمكن القول إن بوتين منذ وصوله إلى السلطة انتبه مبكرا ووضع عينيه على أوكرانيا مدركا أن المعركة المرتقبة ستكون فى ساحة هذه البلاد التى تضم أسطول البحر الأسود، والشرق الصناعى، والتخوم الغربية المشتركة مع أعداء روسيا التاريخيين، لا سيما بولندا.

كان بوتين يتابع ابتلاع الناتو لدول حلف وارسو وتحطيم يوغوسلافيا وغزو العراق؛ ومن ثم كان يحصى ما تبقى من قطع الشطرنج فى «اللعبة الكبرى» مع الغرب. ولم يكن صعبا عليه إدراك أن أوكرانيا هى القطعة الأكثر خطورة.

على هذا النحو، فإن الحرب التى بدأت فى فبراير 2022 يعود تراكمها لأكثر من 20 سنة، وبالتحديد مع صعود بوتين إلى سدة الحكم واستفادته من كل أخطاء عصر بوريس يلتسين، وسعيه لتصحيح بوصلة روسيا فى السياسة الإقليمية والدولية.

مرارة فى الحلق

يحيلنا المؤلف فى جانب من كتابه إلى جوانب مثلت مرارة فى حلق الروس من تصرفات الغرب تجاه روسيا، حيث لا يخفى الكرملين فى سياساته تجاه الغرب اعتراضه المتكرر على توصيف الغرب لروسيا بأنها دولة من الدرجة الثانية.

ويقول دكتور عاطف معتمد أن هذا الاعتراض يحضر دوما فى خطب بوتين وأحاديثه العلنية لدرجة تحولت إلى حالة عكسية فيها قدر كبير الآن من الاستعلاء الانفعالى يصف فيه الكرملين الأمم الأوروبية بأنها أدنى مرتبة من روسيا.

لم يتحول تقييم الكرملين لأوروبا والاستعلاء الجديد بين يوم وليلة، فقبل عشرين سنة كانت روسيا فى حالة متأخرة بالنسبة إلى القارة الأوروبية. وتجلى التعبير عن ذلك مبكرا منذ تولى بوتين السلطة فى عام 2000. فخلال فترة رئاسته الأولى (2000ـ 2004) أعرب بوتين فى مؤتمر صحفى للمراسلين الغربيين: «إن بلادكم تنظر إلى الشعب الروسى وكأنه شعب بدائى نزل للتو من فوق أغصان الأشجار فى الغابة، ويحتاج إلى أن يغسل شعره من الأقذار وأن يتخلص من الأوساخ التى علقت به».

ربما كان تعبير بوتين به قدر كبير من المبالغة التصويرية، لكن يمكننا أن نعثر على جذور وأدلة لهذا الموقف حتى من قبل بعض رموز اليسار الأمريكى وفى مقدمتهم نعوم تشومسكى بإشارته إلى أن المتطرفين فى السياسة الأمريكية كانوا يتهكمون على الشعوب الروسية فلا يكتبون اسمها الصحيح «سلاڤ Slav»، بل يضيفون حرفا زائدا فى نهاية الاسم ليصبح «Slave» فيبدو الاسم وكأن روسيا «دولة العبيد».

وعلاوة على تذمر بوتين وملاحظة تشومسكى فإن وسائل الإعلام الغربية لم تتوقف لسنوات عديدة منذ انهيار الاتحاد السوفيتى عن وصف روسيا بأنها «دولة من دول العالم الثالث لديها ميراث شرقى مستبد، لكنْ لديها جيش عظيم وأسلحة نووية جبارة!».

شحذ الأبطال

منذ أن قامت روسيا بغزو أوكرانيا فى فبراير 2022، يشحذ الكرملين مجموعة كبيرة من الدعاية السياسية المنظمة ويستعيد بعض الشعارات الوطنية والقومية، بل بعض أساطير الماضى.

ومع غياب أى أبطال للعصر فى عام 2022، يستعيد بوتين أسماء أبطال مَرَّ عليهم الزمن قبل قرون: الأمير والقائد العسكرى ألكسندر نيفسكى (القرن الـ13)، والقيصر بطرس الأكبر (القرن الـ18)، والمارشال ميخائيل كوتوزوف (القرن الـ19). لكل هؤلاء الرموز تماثيل فى عموم روسيا. ومن أشهرها تمثال منتصب بجوار الكاتدرائية الكبرى فى شارع نيفسكى برسبيكت بمدينة بطرسبرج يخلد المارشال «ميخائيل كوتوزوف» الذى كان الند الروسى للقائد الفرنسى نابليون بونابرت فى مطلع القرن الـ19، والذى كان بالتالى أحد أهم أبطال رواية «الحرب والسلام» التى أبدعها «ليو تولستوى».

ولعل فى ذلك أزمة كبيرة من زاوية صياغة الأطروحة الأيديولوجية التى تقدمها روسيا للأجيال المقبلة. وفى سبيل ذلك تبقى الأطروحات المتاحة أمام الكرملين للتسويق هى فكرة تآمر الغرب على روسيا، ومحاولة محو حضارتها وإذلال شعبها وقوميتها.

ولهذه الأفكار جذور ممتدة فى الماضى القريب، فبعد سنوات صعبة من انهيار الاتحاد السوفيتى، أصدر المؤرخ الروسى «سيربريانكوف» فى عام 1998 كتابه المهم «حروب روسيا»، وأضاف إليه عنوانًا فرعيًّا شارحًا مضمونه: «التحليل الاجتماعى السياسى». ومن بين أشهر عبارات الكتاب أن روسيا «ولدت لتحارب». يتتبع المؤلف الحروب التى خاضتها روسيا عبر ألف سنة فينتهى عبر التحليل الإحصائى إلى أن روسيا ــ بعد فرنسا ــ هى أكثر دول العالم خوضا للحرب. من دون شك تعد الحرب مكونًا أساسيًّا فى الحياة الروسية، بل ركنًا من أركان عقيدة الدولة، ونظام الحكم فيها.
وبينما يقرر المؤرخ فى كتابه أن روسيا دولة «ولدت لتحارب»، نجد اليوم أكبر مشكلة تواجه روسيا حاليًّا وهى أن جيلها الجديد يريد أن يغير هذه العبارة لتصبح دولة «ولدت لتعيش وتستمتع بالحضارة» تماما كما تفعل المجتمعات الأوروبية الغربية.

كلمة أخيرة

لم تسع المساحة المحدد لعرض هذا الكتاب، سوى لبعض لقطات من جهد بحثى معتبر بذله الدكتور عاطف معتمد، لوضع قارئه فى عين العاصفة الروسية الأوكرانية، أو بمعنى أدق فى قلب الأحداث التى تجرى على رقعة الشطرنج الدولية التى يتبادل فيها اللاعبون الضربات، لخلق عالم جديد يبدو أن والدته ستظل عسيرة لسنوات، قبل أن ينجلى الغبار عن المعارك الدائرة الآن، الساخن منها والبارد، فى أكثر من رقعة جغرافية وإن بدا التباعد بينها ظاهريا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved