ما الذي يجعل فيلم المخدوعون شهادة حية على معاناة الفلسطينيين؟
آخر تحديث: الجمعة 8 نوفمبر 2024 - 3:35 م بتوقيت القاهرة
الشيماء أحمد فاروق
ما زالت معاناة الفلسطينيين تتردد أصداؤها عبر شاشات التلفاز ووسائل الإعلام، وتبقى مأساة اللجوء والنزوح واحدة من أقدم الجراح التي حملها الشعب الفلسطيني عبر أجياله. اليوم، وبينما تُعرض صورٌ حية على هواتفنا الذكية لواقعهم المأساوي، نتذكر أن هذا الواقع ليس جديدًا، بل هو جزء من حياة ممتدة على مدار أكثر من سبعة عقود. فقد شهدت الأرض الفلسطينية عذابات لا تعد ولا تحصى بسبب الاحتلال، من نزوح وتدمير للأحلام، وتحطيم لأبسط حقوق الإنسان في العيش الكريم.
من بين الأفلام التي وثقت تلك المعاناة، يبرز فيلم "المخدوعون" الذي يعرض صورة قاسية من حياة الفلسطينيين. عُرض الفيلم لأول مرة عام 1972، مستندًا إلى رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس"، ويُعد أحد أهم الأعمال السينمائية التي تجسد واقع اللجوء والهجرة الذي فرضه الاحتلال. تجسد القصة رحلة 3 رجال من أعمار مختلفة، يسعى كل منهم للهرب من جحيم الحياة تحت الاحتلال بحثًا عن حياة أفضل، فيضطرون للركوب في صندوق مغلق، يمر بهم عبر الصحراء نحو الكويت، عابرين الحدود بحثًا عن الأمل.
الجميع في هذا السياق الدرامي هم ضحايا، حتى من يبدو أنهم جُناة أو ارتكبوا أفعالاً غير إنسانية. تركز دراما الفيلم على تصوير معاناة كل فرد، حتى أولئك الذين قد يظهرون في نظر المشاهد كفاعلين "أشرار"، حيث إنهم ضحايا لشيء واحد فقط: الاحتلال. فقد انتهكت آدميتهم جميعاً، ولم ينجُ إلا من مات مدافعاً عن أرضه. هذه الفكرة هي المسيطرة على العمل، رغم أن الفيلم لا يحتوي تقريباً على أي مشاهد لجنود إسرائيليين، ولكن نتائج النكبة كافية لرؤية الصورة كاملة.
يستهل الفيلم مقدمته بقسوة ما ينتظر أبطاله، صورة ثابتة للصحراء وعلى يسار الكادر نصف جمجمة بشرية متآكلة، في دلالة واضحة على المصير المحتوم للمخدوعين. وفي نهاية المقدمة، ترك المخرج رسالة على الشاشة قبل بداية الأحداث، تضمنت "وأبي قال مرة: الذي ماله وطن ماله في الثرى ضريح، ونهاني عن السفر".
تبدأ الأحداث مع أبو قيس، رجل أنهكه الزمن مبكراً رغم أن سنه ليس كبيراً، فقد تحولت حياته من منزل وطفل يذهب إلى المدرسة وأشجار زيتون، إلى غرفة صغيرة بلا سقف في منطقة للنازحين، بعد أن استولى الاحتلال على كل شيء.
ثم نتعرف على أسعد، الشاب الذي تعرض للإهانة والإذلال لأنه كان يبحث عن تغيير أوضاع مجتمعه، فقرر الهروب من السجن المحتوم. يظهر فيما بعد مروان، المراهق الفقير الذي ضاعت أحلام دراسته واستقراره بعد أن تخلى شقيقه عن مساعدتهم المالية نتيجة زواجه واستقراره في الكويت، وتخلى والده عن مسؤولياته كأب وتزوج من أخرى بحثاً عن حلمه في غرفة لها سقف بعيداً عن خيام الطين التي كان يعيش فيها مع زوجته الأولى وأربعة أطفال.
أحلامهم كلها كانت تتعلق بالهرب إلى الكويت بحثاً عن حياة أفضل، ولكن سماسرة التهريب لا يرحمون. هنا يظهر دور أبو الخيرزان، الرجل الذي فقد عضوه الذكري أثناء انضمامه للمقاومة، فأصبح مؤمناً أن الوطن قد ضاع ورجولته أيضاً، وفقد إيمانه بكل شيء إلا المال، فعمل في التهريب عبر سيارة خزان المياه التي تخص الكويتي الذي يعمل لديه.
المخرج توفيق صالح، صاحب هذا الفيلم السينمائي المميز، لديه تاريخ مهم من الأفلام على الرغم من قلتها، مثل "درب المهابيل" و*"يوميات نائب في الأرياف"*. وقد اختبر المخرج بنفسه الهجرة والتنقل، فقد ترك مصر بعد تضييق الرقابة على أعماله وتحطم أحلامه في صناعة مزيد من الأفلام، وغادر إلى سوريا ثم إلى العراق.
كتب الكثير عن هذا المخرج وأعماله وبراعتها. على سبيل المثال، يقول هادي زكاك إن توفيق صالح حاول تقديم سينما مفيدة "بالمعنى الذي تحدث عنه أرباب الواقعية الجديدة في إيطاليا، بالأخص الثنائي زافاتيني ودي سيكا. سينما تتحدث عن قضايا المجتمع وتحمل بعداً سياسياً وتعكس زمنها". وفقاً للجزيرة، كان صالح يكرر دائماً أن "السينما أداة تغيير، لا تكريس لتخلف الواقع ودغدغة مشاعر الجماهير قبل النوم مع كل الأماني الطيبة بأحلام سعيدة".
كل هذا يتجلى في واقعية وقسوة فيلم "المخدوعون". إن كافة التفاصيل الدرامية في الفيلم لم تُزرع عبثاً. كل خطوة وكادر يعبر عن شيء كان المخرج يريد الإشارة له، ليس بالصورة فقط ولكن أيضاً بالموسيقى. فقد صاحب صوت الناي الحزين أبطال الحكاية في رحلتهم داخل الصحراء، بينما ظهرت الكمنجات بلحن أكثر بهجة في لحظات هامشية بسيطة عندما كان هؤلاء يصابون بلحظة أمل زائفة. كما كانت الطبول تعزف في أداء متوتر أثناء لحظات الخوف والارتباك والضياع.
وظف صالح أيضاً المادة الأرشيفية وصوراً وثائقية في سياق الفيلم، صوراً للنازحين وطعام الإغاثة والمخيمات، وأخرى للسياسيين واجتماعات الدول العربية وعناوين الصحف التي كانت تشير إلى كلمات مقتضبة عن الفلسطينيين وحالهم بعد الاحتلال. وبتكامل بين هذه العناصر، تم توضيح صورة قاسية من حياة الفلسطينيين.
وبالنسبة للمشاهد، فإنه يستطيع بوضوح المقارنة بين عام 1958 وعام 2023 أو 2024 أو أي أعوام أخرى. فالصورة هي نفسها: النزوح والهجرة والمخيمات، الأطفال الجوعى، الأمهات الثكلى، والرجال العجز عن تلبية أي شيء في ظل وضع مأساوي من التشريد والقتل الذي يحيط بهم. الفيلم لا يعكس الماضي فقط، بل يشير إلى بشاعة حاضر ومستقبل لم يتغير فيه أي شيء بل ازداد الموت والدمار والتشريد.