تمشية الغروب.. قصة جديدة للكاتب الكبير نبيل نعوم
آخر تحديث: الجمعة 8 نوفمبر 2024 - 6:35 م بتوقيت القاهرة
دون أن أمد يدى لمصافحته، أخذنى فى حضنه. أغرقنى فى رائحة منفرة، مزيج بين عرقه وعطر رخيص، وسألنى مندهشا «ألا تذكرنى؟ أنا فوزى. فوزى غنيم. بالطبع تذكرنى». كنت فى لباس البحر، أقوم كعادتى بالتمشية عند الغروب، من شاطئ العجمى حتى الهانوفيل. استوقفنى هذا الرجل الضخم الذى يرتدى ملابسه الكاملة. أبعدنى، ثم احتضننى ثانية بعد أن تأملنى مؤكدا لنفسه ولى، أننى ثروت الفيومى، وأنه فوزى. «الإبراهيمية الثانوية. كافتيريا كلية الحقوق. فوزى يا ثروت. فوزى غنيم».
كم حاولت استعادة تلك الفترة بذاكرتى حتى أتمكن من التعرف عليه؛ تفصلنا ثلاثون عاما عن صورتنا حينها. ربما لم يكن بهذه الضخامة، أو فقد شعره؟ وإن كانت الأسماء تتوه عنى الآن بسهولة، إلا أن وجوه الأصدقاء فمن الصعب نسيانها! لابد أن استمرار علامات الدهشة على وجهى أزعجته أو أحرجته، فرد فعلى لم يتناسب مع غبطته الشديدة لصدفة مقابلتى. «فوزى..» قلت له أخيرا، راسما ابتسامة على شفتى، ما زال رأسى يفتش عنه بوسع جهدى فى أركان الذاكرة المعتمة داخل فصول المدرسة الثانوية، أو وسط كافتيريا كلية الحقوق الشهيرة. نظر الرجل إلى لباس البحر، وقال لى ضاحكا: «ما زلت محتفظا بشبابك، أما أنا فكما ترى، صرت كالدرفيل». أخرج علبة سجائر من جيب سترته ذات النصف كم، والتى بسبب ضيقها، كشفت عند موضع الأزرار عن صدره المتصبب بالعرق. «ولع»، ناولنى سيجارة، وأعاد العلبة بصعوبة إلى الجيب الذى برزت منه بعض الأوراق، وقلم حبر جاف دون غطاء. «أنا لا أدخن»، قلت له شاكرا. «أنت لا تدخن؟ كنت تشرب علبتين فى اليوم أثناء الدراسة». «ولكننى، ومنذ سنوات، أقلعت عن التدخين حسب أوامر الطبيب». «لا بأس عليك». ظهرت علامة أسى على وجهه. «بالطبع لا تشرب أيضا، وتقوم برجيم. صفات الأرستقراطية يا دكتور»، ضحك ضحكة مجلجلة، وقبل أن أفتح فمى، اقترح أن نكمل تمشيتى، إذ ليس فى نيته حرمانى من رياضتى. أخذ يرفع قدميه بصعوبة من رمال الشاطئ المبللة، وهو يلاحقنى بالأسئلة لمعرفة أخبارى. ثم قص علىَّ تاريخ حياته منذ تخرجه: عمل فى الشركة الأهلية للتأمين. ذبذبته الحياة بلا هوادة بين ثراء وفقر. جمع من المال، ما فقده. وأخيرًا قرر التقاعد قبل نهاية خدمته ليعمل بمكتب قريب له؛ فدخل الوظيفة لم يعد كافيًا فى هذه الأيام العصيبة. عند بداية الهانوفيل، أخذت فى العودة. وحين سألته عن وجهته، صارحنى بأنه يقتل الوقت، وغير مرتبط بموعد، وأنه من شدة سروره بمقابلتى، سيترك لى الأمر. كانت الشمس على وشك الغروب. وحين بلغنا العجمى، أبديت نيتى فى الرجوع إلى منزلى القريب من الشاطئ. أخرج منديلاً من جيب سرواله، جفف العرق المنهمر على رقبته، ووقف فى مكانه حائرا. وقبل أن أمد يدى مودعا، استفسر مرة أخرى باهتمام عن صحتى وقد أزعجه امتناعى عن التدخين. طمأنته. «أمراض الشيخوخة العادية يا فوزى بيه. قرحة فى المعدة، لكن الحمد لله فى تحسن». «أعوذ بالله. ألف سلامة لك. الينسون يا ثروت بيه. عليك بشرب الينسون. اسمع مجرب، وإياك والأدوية فهى سموم. الينسون..» أخذ يكرر علىَّ. شكرته على نصيحته، وحين شرعت فى السير نحو منزلى، أخرج المنديل ثانية يمسح رأسه ورقبته، وأكمل السير معى. * كانت الليلة حارة، ونسبة الرطوبة عالية. وبالشرفة البحرية المطلة على الحديقة، جلس معى يكمل حديث الأصدقاء. وإن لم أتمكن من تذكره، إلا أننى وجدته مسليا. «أنا لا أصدق أنك لم تتزوج ثانية بعد وفاة المرحومة. أما أنا فقد تزوجت ثمانى مرات دون أن ترحل للأسف ولا زوجة واحدة. آخر امرأة تزوجتها مدة شهر ثم طلقتها. كانت تسير وهى نائمة. كادت تتسبب فى حريق شقتى. تصور يا ثروت بيه أنها كانت تهرب من الفراش وأجدها تحاول الطهى بالمطبخ وهى نائمة. تصور يا ثروت بيه، تطبخ وهى نائمة»، ضحك وغمز لى بعينه اليسرى. تحرر من سترته، ووضعها من خلفه على ظهر المقعد البامبو الذى برزت من جانبيه كتلتان من لحم فخذيه. أشعل سيجارة، ثم قال بجدية «رجل فى ثرائك يجب أن يتزوج. كيف ولم تعش وحدك؟» «اعتدت على الوحدة يا فوزى بيه»، أجبته، أناديه بالاسم الذى قدّم به نفسه. «ثم لا تنس أننا لم نعد شبابا. ومن تقبل الزواج بى إلا لو كانت فقدت الأمل فى الزواج». «أعوذ بالله»، قاطعنى «أنت تبدو فى الأربعين». «لقد تجاوزت الخمسين». قلت له أتحسس شعرى الذى ملأه البياض. «أعرف، فنحن من الجيل نفسه، ولكنك تبدو كأخى الأصغر». مرت فترة صمت قصيرة، جفف فيها عرقه. قرب مقعده ناحيتى، ثم قال لى بصوت حاول أن يخفضه «عندى لك عروسة». ضحكت. «لا تضحك. زوجة ممتازة تليق بمركزك. جميلة ومتعلمة. وأهم من ذلك، لم تتزوج من قبل»، صبّ لنفسه كوبًا من الليمون المثلج. شربه دفعة واحدة، ثم أكمل بنبرة الاهتمام التى أبداها من قبل عند حديثى عن مرضى «وعذراء». ازداد ضحكي. فبالرغم من ضخامة هذا الرجل، إلا أنه يتصرف بعفوية الأطفال. «لابد أنها فى السبعين»، قلت له، أصب لنفسى بعض الليمون.
«بل فى ربيع عمرها. زهرة لم تتجاوز الخامسة والعشرين». ومسايرة له، سألته «ولِمَ تقبل أن تقبر نفسها مع رجل فى سن أبيها، أو جدها؟» «أعوذ بالله. تقبر نفسها؟» أبدى استياءه من تقليلى لأهميتى «بل تتشرف بالاقتران برجل مثلك. أحد عباقرة المحاماة. ومن يجهل ثروت بيه الفيومى؟» لا أعرف كم مرَّ علينا من الوقت ونحن بالشرفة، يدهشنى فوزى بقدرته الفائقة على قطع الملل بتنوع حديثه. فبعد عرض الزواج، تابع حكاياته عن مغامراته المختلفة مع النساء، ونوادره مع الفقر والثراء. وحين بدا على الإرهاق ولاحظ تثاؤبى، سألنى إن كان يزعجنى أن يقضى الليلة بمنزلى بالعجمى، فقد تأخر به الليل، وربما يجد صعوبة فى العودة إلى الإسكندرية حيث يقيم ببنسيون بسيدى بشر. * استعدت إدراكى بصعوبة. لسبب ما، كانت حركتى بطيئة، وشعرت بألم برأسى. مددت يدى أتحسس الشىء الثقيل الكامن فوق جبهتى. اكتشفت أربطة، وتعرفت على نسيج الشاش الواسع. تنقلت ببصرى بين محتويات الغرفة، علّها تساعدنى على فهم أو تذكر ما حدث. كنت بحجرة نومى، وقد غمرها ضوء الظهيرة المبهر. حاولت النهوض من السرير المواجه لباب الشرفة، وخلف الزجاج رأيت الأشجار فى مكانها. أعادنى الألم إلى الفراش. بصعوبة أخذت استرجاع أحداث الليلة السابقة: مكثت بالشرفة حتى وقت متأخر مع الرجل الذى قابلته على الشاطئ. طلب منى المبيت. اصطحبته إلى حجرة الضيوف. دخلت الفراش، وقرأت قليلاً حتى غلبنى النعاس... فجأة خطر لى احتمال وقوعى فى يد لص. الحقيقة أننى لا أعرف الرجل. بجهد قمت، واتجهت نحو المرآة. رأيت رباط الشاش حول جبهتى، وعليه آثار دم. فككته على مهل، وحين دققت النظر اكتشفت جرحًا صغيرًا فوق حاجبى الأيمن. لم يكن الجرح عميقًا، وقد كون قشرة رقيقة، وظهرت من حوله دائرة زرقاء. «كيف أُصبت؟» حاولت التذكر دون فائدة. لا بد أننى سُرقت. اتجهت نحو الدولاب، وفتحت الأدراج، ولكننى وجدت كل شىء فى مكانه. النقود. الملابس. حتى ساعتى الرولكس الذهبية رأيتها بمعصمى. كانت الساعة الواحدة والنصف. ذهبت إلى حجرة الضيوف، وبالداخل رأيت صديق الأمس يغط فى النوم، وبدا كحيوان ضخم يملأ السرير. * بعد انتهائى من الحمام، وتأكدى من نظافة الجرح وبساطته، عدت إلى حجرة الصديق علّنى أفهم منه ما جرى. وجدته جالسا على حافة الفراش، وقد ارتدى بدلته، وما زالت بعينيه آثار النوم. «الحمد لله على سلامتك يا ثروت. لقد أرعبتنى بالأمس»، نهض، وساعدنى على الجلوس بالمقعد القريب من السرير. «أعوذ بالله»، قال يتفحص وجهى جيدا، ثم سألنى إن كنت أحس بألم موضع الجرح. وبعد أن طمأنته، حاولت الاستفسار منه إن كان يعرف شيئا عما حدث. «ما حدث يا دكتور.. كنت أغط فى النوم، واستيقظت على صوت ارتطام بالردهة التى أمام الحجرات. أسرعت، فوجدتك على الأرض مغشيا عليك. كنت فى حالة لا تسر»، نظر إلى جبينى مرة أخرى، ثم سألنى إن كان أجاد إسعافه الأولى. أخبرنى أنه حملنى إلى فراشى، وقام بتطهير الجرح، وربطه بالشاش، بينما كنت فى سبات عميق. ضحك ثم قال وقد استعاد مرحه «أتعرف يا ثروت بيه، حسبتك تسير أيضا وأنت نائم». * بعد تناولنا الغداء، وقبل الغروب، كنت قد استعدت نشاطى كاملا، ونسيت الجرح. سرنا معا نحو الشاطئ. «هذه المرة الأولى التى يغشى على بهذه الصورة»، قلت له ونحن فى طريقنا إلى الهانوفيل حسب عادتى اليومية. «الحمد لله أنى كنت معك»، قال لى وهو يجاهد بالسير إلى جوارى، وقد شمر سرواله، وحمل حذاءه. «تصور لو حدث هذا وأنت وحدك. أعوذ بالله»، أخذ يكرر على مساوئ الوحدة، وخاصة فى حالتى الصحية الراهنة. حاول عدم إفزاعى، ولكنه قص علىَّ العديد من الحكايات عن أصدقاء لا أذكرهم، ماتوا دون أن يعرف أحد بموتهم إلا بعد أيام. أعاد على مسامعى صفات الفتاة التى نوى تزويجى بها. وقبل عودتنا إلى منزلى، وقد سقط قرص الشمس فى البحر، أخبرنى وهو يجفف عرقه، بأن هذه الفتاة الرائعة الشابة الجميلة، هى ابنته، وأنه موافق على زواجنا.