نساء من عصر التابعين (15).. هند بنت الملهب: أعقل نساء عصرها

آخر تحديث: الثلاثاء 9 أبريل 2024 - 5:52 م بتوقيت القاهرة

منال الوراقي

تعد سير الصالحات تربية عملية للنفوس، وغَرْس للفضائل، وتدريب على التجمل بالآداب الإنسانية في ميادين الخُلُق والرضا وطاعة الله؛ ذلك لأن التربية بالاقتداء من خير الأساليب التربوية؛ لصقل الطباع، وتهذيب المشاعر، والسير قدما على طريق التقوى والاستقامة.

وفي عصر التابعين برزت قصص عشرات النساء في حياة نبي الأمة، ممن كان لهن أثر عظيم في عصرهن والعصور التي تلته، أفرد لهن المؤلف والمترجم السوري أحمد خليل جمعة، كتاب "نساء في عصر التابعين" الصادر عن دار نشر ابن كثير، ليركز على دورهن وما جرى لهن من أحداث ترتبط بالدعوة الإسلامية وبالرسول.

هند بنت الملهب

قال التابعي الفقيه أيوب السختياني عنها: ما رأيت امرأة أعقل من هند بنت المهلب، فمن هند هذه المرأة العاقلة التي أثنى عليها سيد فقهاء عصره، التابعي الناسك، الزاهد الحافظ، الثبت الثقة، أيوب السختياني.

لا شك أنها امرأة ذات حظ عظيم من كمال العلم ومعرفة الأدب والأخلاق، فهي هند بنت المهلب بن أبي صفرة الأردية البصرية، وأبوها الأمير، البطل، قائد الكتائب، المهلب بن أبي صفرة، واسم أبي صفرة - سالم بن سراق الأزدي - التابعي الكريم، حدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وسمرة بن جندب، وابن عمر، والبراء ابن عازب، وكان المهلب سخياً، شجاعاً، فاضلاً، عاقلاً، توفي غازياً سنة ۸۲ هـ.

أما هند ابنته فقد تزوجها الحجاج بن يوسف الثقفي المشهور، وكانت لها معه أخبار ملئت بها بطون الكتب، ومنذ أن نشأت هند عُرفت برجاحة العقل، وبعد الهمة، كما اشتهرت بفصاحتها النادرة، وبلاغتها الواضحة، وحكمتها الهادفة، وكمال أدبها، وحسن خصالها ومروعتها.

وفي جلسة أميرية خاصة جمعت الحجاج بن يوسف وبعض الأعيان، جرى خلالها حديث النساء وذكر أحوالهن، فأدلى كل دلوه في هذا، وتحدث عن زوجته، وأبان فضلها، وما فيها من خصال حميدة؛ ولكن الحجاج وصف نساءه بما يلذ له السمع، ويطرب له القلب، فدونك فاستمع حديث الحجاج عن نسائه.

إذ قال: عندي أربع نسوة: هند بنت المهلب بن أبي صفرة، وهند بنت أسماء بن خارجة، وأم الجلاس بنت عبد الرحمن بن أسيد، وأمة الرحمن بنت جرير بن عبد الله البجلي.

فأما ليلتي عند هند بنت المهلب فليلة فتى بين فتيان يلعب ويلعبون؛ وأما ليلتي عند هند بنت أسماء فليلة ملك بين الملوك؛ وأما ليلتي عند أم الجلاس فليلة أعرابي مع أعراب في أحاديثهم وأشعارهم؛ وأما ليلتي عند أمة الرحمن بنت جرير فليلة عالم بين العلماء والفقهاء.

العالمة الراوية:

لم تقف هند بنت المهلب عند حسن معاملة الزوج، والبعد عن سخطه، ولم تقف كذلك عند أبواب القصور تجيل الطرف في زخارفها، بل أخذت بنصيب موفور من العلم والرواية عن أكابر علماء التابعين، وعمن لقوا صحابة رسول الله له فأخذوا عنهم، ونشروا علمهم في مشارق الأرض ومغاربها.

وطرقت هند أقرب أبواب العلم لديها، فحدثت عن أبيها المهلب وكان أحد رواة الحديث - كما حدثت عن الحسن البصري - إمام التابعين وسيدهم، وعن أبي الشعثاء جابر بن زيد.

وحكى عنها ابنا أخيها: حجاج بن أبي عيينة بن المهلب، وأخوه محمد بن أبي عيينة، وزياد بن عبد الله القرشي، وأبو سلمة مولى العتيك.

الفقيهة النجيبة:

كانت هند بنت المهلب على جانب عظيم من الفقه والعلم والنجابة، فعلى الرغم من أنها زوجة أمير كبير، وابنة أمير كريم، وتتقلب في أحضان النعيم وأفيائه ذات اليمين وذات الشمال، إلا أن هذه المظاهر كلها لم تمنعها من أن تعمل بيدها، لما في هذا من أجر، وطرد للشيطان ووساوس النفس، وكانت تعمل بهذا من باب التفقه بالدين والدراية بالحديث الشريف.

روى تلميذها زياد بن عبد الله القرشي قال: دخلت على هند بنت المهلب بن أبي صفرة امرأة الحجاج بن يوسف؛ فرأيت في يدها مِغْزَلاً، فقلت: أتغزلين وأنت امرأة أمير المؤمنين؟! قالت: سمعت أبي يقول: قال رسول الله ﷺ : (أطولكن طاقة، أعظمكن أجراً، وهو يطرد الشيطان، ويذهب بحديث النفس).

ومن روايتها عن الحسن البصري ما حدثت بهذا الحديث فقالت: قلت للحسن: يا أبا سعيد - كنية الحسن - ينظر الرجل إلى عنق أخته، وإلى قرطها، وإلى شعرها؟! قال: لا، ولا كرامة.

وتبين من هذا القول مدى معرفة هند وحرصها على طهارة المرأة، وتتبعها المواطن النقاء والظهر حتى في بيتها، ولهذا وصفها أيوب السختياني بقوله: ما رأيت امرأة أعقل منها.

شهادة زاكية لأستاذها:

لعل هنداً من أقدر الناس على قول الحق إن لم تكن أقدرهن، وفي قولها للحق لا تحابي أحداً، أو تمتدح أحداً بما ليس فيه، ولكن تذكر صفاته الموجودة فيه، من ذلك أنهم ذكروا عندها جابر بن زيد أستاذها - وقالوا: إنه كان إباضياً، قالت: كان جابر بن زيد أشد الناس انقطاعاً إلى وإلى أمي، فما أعلم شيئاً كان يقربني إلى الله إلا أمرني به، ولا شيئاً يباعدني عند الله إلا نهائي عنه، وما دعاني إلى الإباضية قط، ولا أمرني بها، وإن كان ليأمرني أين أضع الخمار، ووضعت يدها على الجبهة.

حكمتها وجودها:

كانت هند بنت المهلب ممن أوتين المحكمة في عصر التابعين، ولعل مصدر حكمتها يرجع إلى البيئة النقية التي عاشتها، وإلى الحياة الاجتماعية التي كانت في تطور مستمر عصرئذ، أضف إلى ذلك كله أن هنداً على حب العلم ومواصلة العبادة، كما فطرت على حب نفسها قد نشأت الكرم الذي يؤلِّفُ القلوب، ويجبر النفوس.

ولها في الكرم أخبار تدل على نفسيتها الفريدة في عالم نساء عصرها، فقد كانت تكرم النساء اللاتي يزورنها، وكانت ترى أن يد المعروف والكرم غنم حيث كانت، حدثت أم عبد الله العتكي قالت: كنت أدخل على هند بنت المهلب، وهي تسبح باللؤلؤ، فإذا فرغت من تسبيحها، ألقته إلينا فقالت: اقسمنه بينكن.

وهذا ليس بغريب على امرأة عقدت حلفاً وثيقاً مع الجود، وأسكنته بين جوانحها، ففي كتابه (المحاسن والمساوئ)، ذكر البيهقي أنها أعتقت في يوم واحد أربعين رقبة، لذلك كانت ترى هذا من نعم الله عز وجل عليها، ومن فرائد أقواها في حثها على الشكر لأنعم الله عز وجل، وتوجيه الناس إلى حفظ النعمة، فقلما عادت نعمة بعد زوالها، قالت: إذا رأيتم النعم مستدرة، فبادروها بتعجيل الشكر قبل حلول الزوال.

هند تعزي نفسها:

 يقال إن المرأة أقل صبراً في الحزن من الرجل؛ ولكن هند بنت المهلب - رحمها الله - كانت من النسوة العاقلات في هذا المجال، ففي مجال العزاء كانت تجود بالحكمة الرائعة التي تجري مجرى الأمثال، وتبتعد عن البكاء والعويل وتقطيع الثياب؛ ففي كتابه (الأغاني)، روى أبو الفرج الأصبهاني أن ثابت قطنة - أحد شعراء العصر الأموي - ق دخل على هند بنت المهلب لما قتل المفضل بن المهلب - أخوها - وكان الناس حولها جلوساً يعزونها، فأنشدها من شعره في رثاء المفضل الذي مات في سنة ١٠٢ هـ.

وقال يا هند كيف ينصب بات يبكيني.. وعائر في سواد الليل يؤذيني.. كان ليلى والأصداء ماجدة.. ليل السليم وأعيا من يداويني.. كان المفضل عزاً في ذوي يُمن.. وعصمة وتمالاً في المساكين.

فقالت له هند: اجلس یا ثابت، فقد قضيت الحق، وما من المرزئة المصيبة - بد؛ وكم من ميتة ميت أشرف من حياة حي، وليست المصيبة في قتل من استشهد ذاباً - مدافعاً - عن دينه، مطيعاً لربه، وإنما المصيبة فيمن قلت بصيرته، وحمل ذكره بعد موته، وأرجو أن لا يكون المفضل عند الله عز وجل حاملاً. فكان يقال: إنه ما عُزّي يومئذ بأحسن من كلامها.

رؤيا الحجاج وطلاق هند:

من طرائف الأخبار وبديعها، ما جاء في طلاق هند بنت المهلب، وضرتها هند بنت أسماء، وذلك الحلم رآه زوجها الحجاج بن يوسف، فاعتقد أنه إن طلقها تتأول رؤياه، ولكن هل تحققت الرؤيا؟ وهل جعلها الله حقاً؟.

قالوا: إن الحجاج بن يوسف الثقفي كان قد رأى في منامه أن عينيه قلعنا، وكانت تحته هند بنت المهلب، وهند بنت أسماء، فطلق الهندين اعتقاداً منه أن رؤياه تتأول بهما - إذ قلعهما بزعمه من البيت - فلم يلبث أن جاءه نعي أخيه محمد بن يوسف في اليوم الذي مات فيه ابنه محمد بن الحجاج.

فقال: والله هذا تأويل رؤياي من قبل، محمد ومحمد في يوم واحد، إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم أنشأ يقول: حسبي حياة الله من كل ميت، وحسبي بقاء الله من كل هالك، ثم قال لجلسائه: من يقول شعراً يسليني به؟. فقال الفرزدق: أنا أيها الأمير، ثم أنشأ يقول: إن الرزية لا رزية مثلها.. فقدان مثل محمد ومحمد.. ملكان قد خلت المنابر منهما.. أخذ الحمام عليهما بالمرصد.

وبهذا، انتهت العلاقة الزوجية بين هند بنت المهلب وبين الحجاج بن يوسف، أما عن حياة هند بعد إذ، فيبدو أنها قد عاشت إلى أوائل القرن الثاني من الهجرة بعد خلافة عمر بن عبد العزيز فقد توفي عمر في سنة ١٠١ هـ.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved